في قصر الصخير... قبل 6 سنوات، تحديداً في مارس (آذار) من عام 2018، التقيت الملك حمد بن عيسى آل خليفة. في حوار صحافي حول الأحداث الضاغطة آنذاك، خلال 50 دقيقة تجوّلت مع الملك في أروقة القضايا والملفات الساخنة.
خرائط المنطقة كانت ملتهبة؛ صراعات وخلافات حول النفوذ، وحروب أهلية في عواصم عربية مؤثرة، كانت قد تصدّعت بفعل آثار ما يُسمى «الربيع العربي»، ومواجهات شرسة مع الإرهاب بكل أنواعه، وتدخلات إقليمية ودولية، وأزمات اقتصادية عالمية متلاحقة.
كنتُ أُنصت إلى ما وراء كلمات الملك، تتداعى أمامي خريطة المنطقة العربية، كان يحدوني الأمل بأن الإقليم سيدخل سريعاً في دائرة الاستقرار. لكن الواقع كان يعكس حالة سيولة لأسباب مختلفة.
ما أشبه الليلة بالبارحة، أكتب اليوم عن قمة المنامة، أتذكر ما قاله لي الملك حمد قبل 6 سنوات في حواري معه، عندما سألته عن رؤيته لأوضاع المنطقة العربية، فأجاب بصراحته ودقته المعهودتَين: «هذه الأيام إذا نظرنا إلى منطقتنا وفقاً للجغرافيا، فهي في اضطراب بشكل كبير وزائد، وأزمتنا لن تنفرج إلا بتكاتف العرب جميعاً، وتعزيز العمل العربي المشترك».
ليست مصادفة أن يأتي حواري مع الملك، مستبقاً بأيام قليلة القمة العربية في الرياض في ذلك العام، بالطبع سألته عن آماله وطموحاته المنتظرة آنذاك من قمة الرياض، أجابني بتشخيص يتمنى أن يحدث: «في ضوء الاجتماع العربي ستكون هناك فرصة لرسم استراتيجية جديدة بشكل أكثر خبرة، بعيداً عن الاستراتيجيات القديمة المستهلكة».
الآن، بعد مرور هذه الأعوام الستة، على مقابلتي مع الملك حمد بن عيسى آل خليفة، أتأمل الصورة فأراها وقد باتت أكثر صعوبة. فواتير اقتصادية بفعل جائحة «كورونا» تارة، وأخرى بفعل الحرب الروسية - الأوكرانية، وثالثة أكثر صعوبة وتعقيداً بفعل الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني المستمرة منذ نحو 8 أشهر، فضلاً عن أخطار كبرى تهدد الوجود البشري نفسه؛ بسبب تلويح بعض القوى الكبرى باستخدام أسلحة نووية.
المشهد يزداد قتامة، والخرائط العربية باتت عرضة للاهتزازات الكبرى.
هنا قمة المنامة، وهذا هو سؤالي نفسه الذي كنت قد طرحته على الملك، أعيد طرحه مرة ثانية على قمة المنامة: ما الآمال، وما الطموحات التي ينتظرها الشارع العربي من قمة العرب الثالثة والثلاثين؟
لا شك في أن الطموحات كبيرة، والآمال عريضة، ننتظر من أطباء الدبلوماسية والساسة العرب تشخيصاً دقيقاً، وكتابة وصفات دوائية ناجعة، لإيقاف نزف الشعب الفلسطيني المستمر منذ عقود، ووضع حد للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والإيمان الكامل بضرورة وأهمية بلورة موقف عربي موحد، وغير تقليدي في مواصلة الضغط على كل الأطراف الفاعلة، لوقف الحرب، والذي يمكن أن يأخذ مجموعة من المسارات في مقدمتها:
الذهاب مرة أخرى إلى مجلس الأمن، لاستصدار قرار ملزم، بإيقاف الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وفق الفصل السابع وليس وفق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، والوصول إلى صيغة قابلة للتنفيذ، بشأن ضرورة استدامة دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية إلى الأشقاء في قطاع غزة، ووضع خطة عملية لإعادة الإعمار الذي بات يمثل أزمة كبرى، خصوصاً أن تقرير الأمم المتحدة سجل أن 70 في المائة من المباني، والمستشفيات، والمدارس، وشبكات المياه والكهرباء، تم تدميرها بالكامل، ويحتاج إعمارها إلى سنوات من العمل المتواصل، وهذا يشكل عبئاً حياتياً على نحو 2.5 مليون فلسطيني يقطنون 5 محافظات في غزة، هذا بالإضافة إلى أهمية رسم خريطة طريق، تفضي إلى الحل السياسي الشامل، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، تتمتع بعضوية كاملة في الأمم المتحدة.
هنا يمكن لقمة المنامة أن تبني على قرار تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي أوصى بقبول فلسطين «دولةً كاملة العضوية» في الأمم المتحدة، ودعا مجلس الأمن الدولي إلى ضرورة التعامل بإيجابية مع نتائج هذا التصويت.
هذه الآمال تتعلق بملف واحد، بينما هناك آمال أخرى ننتظرها من القمة نفسها، تتعلق بما يدور في الحرب داخل السودان، وضرورة أن تضع أوزارها، ويعود الشعب السوداني إلى الاستقرار، كما يجب التوصل إلى اتفاق بين الفرقاء الليبيين، واستعادة مؤسسات الدولة الليبية الوطنية إلى الحيوية، والبحث عن استراتيجية جديدة للتعامل مع تهديدات الأمن القومي العربي على جميع الأصعدة، لا سيما أن هناك دولاً إقليمية مجاورة تصادمت مع أخرى على مسرح الإقليم، واستدعى هذا الاصطدام مجيء قوى بعيدة، بذريعة الدفاع عن مصالحها، وحماية حلفائها، على نحو ما جرى في الارتطام الإيراني - الإسرائيلي.
إذن، ما بين حواري مع الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وبين انعقاد قمة المنامة، لا تزال الجراح العربية تنزف، في انتظار قرارات استراتيجية حاسمة تؤسس لمشهد عربي جديد، يعتمد على الذات العربية - العربية.