بقلم - جمال الكشكي
هذه الأيام، تمر الذكرى الخمسون على رحيل واحد من أهم العقول المصرية والعربية، في تاريخ التنوير.
رجل ترك بصمة - لا تخطئها عين التاريخ ـ على الآفاق، الثقافية والإبداعية.
أتحدث عن الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، الذي جاء من المستقبل ليضيء لنا كل هذه الدنيا، بثقافاته وعلومه، بات ملهماً لكل شعوب العالم، قهر الظلام، وصاغ مؤلفه الأهم «مستقبل الثقافة في مصر».. تجاربه فاضت على كل مؤرخي ومثقفي العالم، لدرجة أنه صار جزءاً أصيلاً من النسيج الثقافي الذي أنتجه العالم خلال حقبته، التي امتدت قرابة القرن.
منذ ولادته كان مختلفاً عن كل إخوته الأشقاء الاثنى عشر، لم يولد كفيفاً، لكن محيط المجتمع المصاب بأمراض، أصاب بسهمه في عينيه ليعيش وحده مع ذاكرته مع عالمه الجوّاني، مع خيالاته مع الألوان، قرر أن يقهر العزلة، وأصبح العالم مرئياً أمام قدميه، وهنا أتذكر ما قاله الشاعر العربي الكبير نزار قباني في رثائه: «ارمِ نظارتيْكَ ما أنتَ أعمى.. إنما نحن جوقةُ العميانِ».
لم يكن عميد الأدب العربي عقلاً عادياً، فرحلته التراجيدية لا تقل عن روايات الملاحم اليونانية المأساوية، كالإلياذة، والأوديسة، وقد خبرها طه حسين بالقراءة الفاحصة والمعرفة الدقيقة، واستلهمها في حياته، وألهمها لطلابه في الجامعة، ولا تزال بصماته حاضرة في مدرجات كل جامعات العالم التي حاضر فيها، ولدى تلاميذه الذين ساروا في الدرب نفسه، وفي كل مدينة عربية، يوجد له دليل من هؤلاء التلاميذ.
نعم، طه حسين كان قولاً وفعلاً، حلم بالثقافة لجميع الناس، وآمن بأن التعليم كالماء والهواء، كان هذا هو القول، أما الفعل، فإنه نفّذ كل قولٍ وكل كتابةٍ واقعياً حين صار وزيراً للمعارف، هذا غير أنه صاغ مؤسسات، وحقق تراثاً ما كان لغيره أن يفعله.
كان طه حسين فخراً للثقافة العربية والإسلامية في قلب مراكز الثقافة العالمية، كان صديقاً ومحاوراً لكبار مثقفي عصره، في إيطاليا وفرنسا واليونان وإسبانيا، جعل الثقافة العربية تحتل مقعداً وثيراً بين مقاعد الكبار في عواصم العالم.
شاء القدر أن يولد طه حسين في العام 1889، ذلك العام الذي ولد فيه اثنان من عمالقة الأدب هما؛ عباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وكثيراً ما ترد على الذهن العام المقارنة بين العقاد وبين طه حسين، ولد في صعيد مصر، كما العقاد تماماً، وكلاهما حاول أن يجعل من الثقافة جسراً إلى الحضارة، فإذا كان عميد الأدب العربي، فقد بصره في الرابعة من عمره، فإن العقاد أيضاً لم يقضِ سوى سنوات أربع في التعليم، لكن الاثنيْن قفزا عالياً فوق سور المحنة، وأشعلا قنديلاً ينير ظلام الجهل.
وسط هذه الرحلة والمسيرة الزاهرة العامرة بالنجاحات، لا بد أن أتوقف، أما شريكة عُمره التي غيّرت حياته، وكانت ضوء عينيه، ففي تلك الأعوام كان قد تزوّج من سوزان بريسو، الفرنسية سويسرية الجنسية، التي ساعدته على الاطلاع أكثر فأكثر باللغتين، الفرنسية واللاتينية، فتمكن من الثقافة الغربية إلى حدٍّ بعيد.
كان لهذه السيدة عظيم الأثر في حياته، فقامت له بدور القارئ، فقرأت عليهِ الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تمت كتابتها بطريقة «برايل»، حتى تساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائماً، وقد أحبها طه حسين حباً جماً، ومما قاله فيها؛ «إنه منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم».