من ينظر بإمعان إلى ما يجري في خرائط العالم الآن، سوف يتأكد أن العالم القديم بات يتآكل برمته، والعالم القديم الذي أعنيه هنا، هو عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك العالم الذي قام على ما يسمى القواعد والقوانين الدولية، وبناء الأمم المتحدة، وحق الشعوب في تقرير المصير، ومنع الحروب الشاملة، كما جرى في الحرب العالمية الثانية.
هذا العالم أصبح الآن من الماضي، فلا القواعد تطبق، ولا القوانين تنفذ، وقد اتسعت رقعة الحروب المتتالية في أكثر من مكان في العالم، والحروب هي إحدى وسائل السياسة، لكنها لم تعد كذلك الآن، بل أصبحنا أمام مفهوم جديد بعنوان: «الحرب للحرب»، مثل مدارس الفنون التي ظهرت في وقت سابق، وأطلق عليها «الفن للفن»، لكن الأخطر هنا أنه فن قاتل.
لو طبقنا هذا المفهوم على خرائط العالم، فسنجدها متحققة في أكثر من جغرافيا، ولو نظرنا إلى الحد الفاصل بين أوروبا وآسيا، حيث المسرح الأوكراني، فسنجد أن الحرب الروسية - الأوكرانية، التي بدأت في 24 فبراير (شباط) 2022، اندلعت بسبب استعادة مفهوم الحرب الباردة.
روسيا تشكو من التدخل الشامل من الغرب الأوروبي - الأميركي، في ترتيب البيت الأوكراني من الداخل، ففي البداية ساعدوا في إشعال ثورة ملونة على الأراضي الأوكرانية، وغيّروا من بنية النظام الحاكم الموالي لروسيا آنذاك، وفي النهاية كان هناك قرار، ولا يزال، بمحاولة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو ما أشعر روسيا بالخطر، ومع الضغط في هذا الاتجاه، وجدت روسيا نفسها تخوض حرباً، ليست تنتمي إلى مفهوم الحرب بوصفها أداة من أدوات السياسة، بل تنتمي إلى مفهوم الحروب التي من دون ضفاف، أو الحروب المنسية!
بعد أكثر من عامين، تشتعل الحرب بين البلدين من دون أمل في إيقافها، فالهدف هنا أبعد من أهداف الحروب القديمة، ونتج عن ذلك أن تحرك الخطر الكامن باستخدام الأسلحة النووية، وتوسيع الاصطدام الجغرافي، كما رأيناه في الزيارة التاريخية، التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، وفيتنام، وتوقيع اتفاقيات غير مسبوقة، تتعلق بالدفاع المشترك.
هذه الزيارة أيقظت المارد النووي بحراً وبراً وجواً وفضاءً في العالم، ففور الإعلان الروسي بتحريك هذه الأسلحة الاستراتيجية، تحركت معها أميركا وحلف الناتو، للإعلان عن قواتها ومواصلة سياستها في أوكرانيا، وفي مناطق نفوذها الجغرافي، ورأينا تحرك الأساطيل الأميركية نحو حليفتها كوريا الجنوبية، في أعقاب زيارة الرئيس الروسي، في رسالة بأن الحرب المفتوحة مستمرة.
إذا أعدنا تطبيق المفهوم نفسه لهذا النوع من الحروب، فنجده يطابق ما يجري في السودان، فالحرب اندلعت في 15 أبريل (نيسان) 2023، ولا تزال مشتعلة، بل تزداد توسعاً، ودخلت دائرة الحرب المنسية، أو المفتوحة، أو التي من دون هدف، ومن دون ضفاف، بل بات السودان ساحة للاستقطاب الدولي، للقوى نفسها الجوالة المتصادمة في جغرافيا أخرى، بل الأكثر خطورة أن السودان بات ميدان رماية، لأسلحة تضخها مصانع عالمية، تجد ضالتها في هذا الميدان.
غير أن الخطر الأكبر يكمن في أن نسيان الحرب في السودان، قد يجعلها «خميرة» لحروب أوسع في القارة السمراء، أو إقليم الشرق الأوسط، وهنا أتساءل: كيف لبلد مثل السودان استمرت فيه حرب أهلية أكثر من ثلاثين عاماً أن يعود إلى المسار الخطير نفسه؟ كان يجب أن يتعلم من الدروس، ويستعيد عافيته لكل أبنائه، لكن مخطط الحروب المفتوحة «المنسية»، وقع على السودان، ولعل السودان الشقيق يدرك في لحظة ما، خطورة مفهوم الحرب المنسية، ويخرج منها بسلام.
واستقبل العالم خطراً جديداً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد اندلعت حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في قطاع غزة، لتأخذ أبعاداً عالمية، تشتبك فيها كل القوى الدولية والإقليمية، وتستدعي الأديان والعقائد، وتستدعي الاستقطابات الكبرى، حيث رأينا الولايات المتحدة، وأوروبا تتبنيان الرواية الإسرائيلية، ورأينا أن هذه الرواية، تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وتهجير الشعب الفلسطيني خارج أراضيه الأصلية.
كان هذا التبني الغربي للرواية الإسرائيلية، خطراً داهماً، فقد جعل إسرائيل تتجاوز كل الخطوط الحمراء في الحروب السابقة، وتقوم بارتكاب إبادة جماعية، وتدمير البنية الأساسية للشعب الفلسطيني، وتعتدي على ذلك النظام العالمي، الذي سميناه نظام «القواعد والقوانين».
ومن ثم، فإن هذه الحروب ضربت جدران نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وشطبت مفهوم الحرب أداة للسياسة، وتبنت مفهوم الحروب المفتوحة، أو الحرب التي من دون ضفاف، أو الحروب المنسية.
إذن، وسط هذا المفهوم الخطر للحروب المفتوحة، فإنني أرى خرائط العالم القديم تتآكل بشكل متلاحق، بل وتنذر بخطر جسيم، ربما تندلع معه ما يسمى «الحرب العالمية الثالثة»، وهي حرب لا يمكن أن تقاس بأخرى في السابق، وعلى ذلك فإن شعوب العالم وخرائطه، لا يمكن لهما الاستقرار من دون نظام عالمي يؤمن بالقواعد والقوانين، والتعدد الثقافي والديني والعرقي من دون تمييز، فلقد انتهت صلاحية عالم القطب الواحد.