كان الشاب الياباني يعبر الطريق، بميدان التحرير بوسط القاهرة... فوجئت به يصافح أحد أصدقائي، ويحدثه باللغة العربية... اقتربت منهما... عرّفني صديقي إليه... ابتسم الشاب الياباني ابتسامة المشاغب. ثم قال: «أنا من هيروشيما، وأكيد أنت تعرفها بالقنبلة الذرية»، قلت له: «بالطبع، أعرفها جيداً»، رحبت به، ثم غادرتهما عابراً فوق جسر قصر النيل.
أخذتني انعكاسات الغروب على سطح النيل، بينما كان عقلي مشغولاً بهيروشيما، التي ذكّرني بها الشاب الياباني، لا سيما أننا نعيش، في شهر أغسطس (آب) الحالي، ذكرى القصف الأميركي لمدينة هيروشيما اليابانية، بأول قنبلة ذرية في التاريخ، في السادس من أغسطس عام 1945، ثم أعقبه قصف مدينة ناغازاكي في التاسع من الشهر نفسه.
استسلمت بلاد الشمس، وأعلنت وقف الحرب، وتوقفت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء: (أميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا). حقق الحلفاء الانتصار، ولكن دول المحور (إيطاليا وألمانيا واليابان) دفعت الثمن فادحاً، آلاف الضحايا والمصابين، وتشوّهت الحياة في مناطق، وانتهت تماماً في مناطق أخرى، وفي الأحوال كلها بات الهواء مرعباً.
توقف كل شيء عن النمو، احترق اللون الأخضر في المدينتين، الجرح لا يزال غائراً في الضمير العالمي، رعب الكارثة لا يزال تتوارثه الأجيال، كابوس يطارد البشرية جمعاء... خسائر النصف الأول من القرن العشرين لا يقوى أحد على تكرارها مرة ثانية.
بعد أكثر من 7 عقود مضت... لم تسقط هذه الكارثة بالتقادم داخل عقلية القوى المتصارعة في العالم.
كل يعرف مدى خطورتها... باتت الورقة القاضية التي يلوح بها الجميع. النادي النووي يتسع يوماً بعد الآخر. حسب معهد استوكهولم لأبحاث السلام فإن الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، والصين، وإسرائيل، وبريطانيا وفرنسا، والهند، وباكستان وكوريا الشمالية تمتلك معاً نحو 13400 قنبلة نووية، ولديها كل أدوات المثلث النووي التي تشمل القاذفات الاستراتيجية، والصواريخ الحاملة للرؤوس النووية، وأيضاً السفن والغواصات النووية.
أعضاء نادي التسعة النووي يشهرون بطاقات العضوية في ساحات الصراع. يلوحون بالجحيم النووي، وكل منهم يدرك جيداً أن هذه الأسلحة جميعاً قادرة على محو كوكب الأرض مرات عدة. تتلاشى الحواجز نحو منع اندلاع حرب نووية، الأنانية السياسية تفرض قواعد اللعبة الصفرية. بضغطة أحد أزرار الحقيبة النووية يُصبح العالم في عداد الموتى، لا شيء بعيداً، ولا شيء قريباً، التهديد عنوان رئيسي في منهج الصراع. العالم بات يقيم داخل المخاوف النووية. ثمة مؤشرات تؤكد ذلك، البيوت النووية، مفردات جديدة في قاموس الاستعداد لهذا النوع من الحروب، تنتشر هذه البيوت في أميركا، والصين، وروسيا، وأوروبا. الفكرة تزداد وتتسع، وبعض بلدان العالم الثالث والشرق الأوسط بدأت التفكير في وجود مثل هذه البيوت النووية.
احتمالات استخدام هذا الخطر تزداد، لا سيما أنه تم تحويل القنابل الاستراتيجية الكبرى إلى قنابل تكتيكية صغرى، يمكن استخدامها في مقدمة الجيوش، أو في مدينة صغيرة، وبالتالي تحولت من سلاح ردع لا يستخدم، إلى سلاح تكتيكي قابل للاستخدام الفعلي. المخاوف باتت بلا حدود، والانسحاب والتهديد بالانسحاب من الاتفاقات الدولية التي تُقيّد إنتاج ونشر واستخدام السلاح النووي، أصبحا شأناً معتاداً في تصريحات قادة الدول النووية المتصارعة.
لمسنا ذلك في تصريحات واشنطن وموسكو وغيرهما من العواصم النووية الموقعة على الاتفاقات الدولية، ترجمة هذه الانسحابات أفضت إلى التلويح العلني بإمكانية استخدام السلاح النووي للمرة الثانية، فليس بعيداً عن ذاكرتنا أزمة الصواريخ الكوبية، فكان العالم على حافة الهاوية النووية عام 1962، عندما نشر الاتحاد السوفياتي السابق صواريخ نووية في جزيرة كوبا «خليج الخنازير». ما أشبه الليلة بالبارحة، العالم يحبس أنفاسه هلعاً من تهور غير مسبوق من هذه الدولة أو تلك. مشهد محطة زابوريجيا النووية في أوكرانيا خير دليل على هذا الخطر، فالقوات الروسية والأوكرانية داخل هذه المحطة، وكلتاهما تتهم الأخرى بالسعي لتفجيرها في أي وقت، وهناك معارك دارت وتدور حولها، وبعض القوات تتحصن بها، وفي حال، لا قدر الله، تم إطلاق النار داخلها فإن هذا الأمر يهدد العالم بنشر الإشعاع النووي في كل أوروبا، والشرق الأوسط، والنصف الغربي من قارة آسيا.
ما يزيد أيضاً من مخاطر الكابوس النووي في الذكرى الثامنة والسبعين لإلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، تلك التصريحات العلنية المباشرة، بإمكانية تكرار استخدام السلاح النووي، فالبشرية أصيبت بذعر من تصريحات قادة الناتو، وروسيا، وأميركا.
إذاً، نحن أمام عالم، يخشى تكرار مأساة «الولد الصغير»، ذلك الاسم الذي أُطلق على أول قنبلة ذرية، فقبل أن يولد «ولد صغير» جديد، على عقلاء وحكماء العالم ألا يكرروا مثل هذه المأساة... فهذه المرة النووية... لن ينجو أحد من مصيدة هذا «الولد الصغير».