توقيت القاهرة المحلي 06:20:24 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رسالة بحبر التحذير

  مصر اليوم -

رسالة بحبر التحذير

بقلم - جمال الكشكي

كعادته بعد كل صلاة ليوم الجمعة، كان ينتظرني على باب المنزل بابتسامته العريضة لنتناقش معاً في القضايا العامة، في الجمعة الماضي، وجدت جاري السوداني ينتظرني في المكان نفسه، لكن الابتسامة المعتادة غابت عنه، لم أحتج إلى تفسير ذلك، فقطعاً هو حزين على ما تشهده بلاده من أحداث كارثية، تقود إلى غموض غير مفهوم، كما توقعت.
سألني عن مستقبل الأوضاع في السودان؟
قلت له: هذه الأزمة ستأخذ دورتها، وسرعان ما ستزول، فالسودان دولة كبيرة وثرية، ولها موقعها الجيوسياسي المتفرد، وثقلها التاريخي، لكن دعني أكون أكثر صراحة، وأقول لك: إن ما يحدث في السودان هو نتاج فك عذرية الاستقرار في المنطقة العربية، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فقد كان لهذا التاريخ ما بعده، تغيرت قواعد اللعبة، استعدت بلاد الرافدين لتقديم تنازلات كبيرة تحت سيف الحروب العسكرية، والنفسية، والإعلامية، والتحالفات الدولية، وما إن وطئت أقدام بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي، أرض العراق، وقلَب الخرائط العربية متحفزاً بأن شيئاً ما قادماً من وراء المحيط، مختبرات هذا التوقيت سجلت أمام التاريخ أن العراق هدف تكتيكي، ومعبر إلزامي لتنفيذ ما يسمى بـ«مشروع الشرق الأوسط الجديد» كهدف استراتيجي.
تصدعت جدران الاستقرار، احترف بريمر صناعة الفتنة بين الشيوخ والقبائل والعشائر، غازل كل الأطراف، أصاب المؤسسة الوطنية في مقتل، عندما قرر حلّ الجيش وحزب البعث الحاكم، وأجهزة الدولة الأمنية، أراد أن يتأكد من عدم قدرة العراق على استعادة روحه الوطنية، فكتب دستوراً طائفياً، يضمن به استمرار الصراع بين شعب ظل على مدار التاريخ متماسكاً وقوياً.
خفَت ضوء الاستقرار، فابتسم برنارد لويس، صاحب نظرية التقسيم والتنظيم، وتمزيق الخرائط العربية، بات العراق مسرحاً لكل صنوف الإرهاب التقليدي والحديث، أقام الخطر في حضن بغداد عاصمة الحضارة والثقافة، تشوهت ملامح بلاد الرافدين في تلك الفترة، بنظرة عابرة إلى جغرافيا المشرق العربي، لم يغب عن أصحاب نظريات الفوضى والتخريب، أن يضعوا خطة لتسكين وكلائهم في العواصم العربية المختلفة، كل شيء بات جاهزاً لحين إطلاق إشارة البداية.
صدى الضربة العراقية سمعناه في تونس عام 2011، وطرق ما يسمى «الربيع العربي»، أبواب المنطقة، راهن البعض على أن مصر ليست تونس، لكن غاب عنهم أن المنهج واحد والأهداف مشتركة، من المتآمرين وأصحاب مشاريع التخريب والفوضى، لم تسلم القاهرة من ارتدادات تونس.
تداعيات الربيع، باتت مثل الأواني المستطرقة، وكانت الجدران تسقط واحداً تلو الآخر، وتتباعد المسافات بين هذه العواصم، لكن ثمة ناظماً مشتركاً، يربط بينها عنوانه «الدمار والفوضى».
ليبيا وسوريا واليمن، ضمن الدفعة الثانية للأهداف المسكوت عنها، المخطط لم ينتهِ بعد، بعض الأهداف تم تأجيلها لحين التأكد من الموت السريري للدولة الوطنية العربية، ملأوا الخرائط بالإرهاب، والمرتزقة، والميليشيات، أسسوا لمفهوم صناعة القوى الموازية للدولة، استوعبت الشعوب الدرس، استطاعت بعض العواصم استعادة قوتها من جديد، والبعض الآخر في الطريق، نحو الصمود والعودة إلى الدولة، صاحبة المؤسسات الوطنية.
خلال عقد مضى، ظل «العرب»، في حالة طوارئ، للخلاص من بقايا وتداعيات وآثار هذا الربيع، الذي يرفض أن يغادر المنطقة، دون أن يضع بصماته على واحدة من أهم العواصم العربية جغرافياً وتاريخياً، وهي «الخرطوم»، فما يسمى «الربيع»، يعرف جيداً القيمة الاستراتيجية لدولة السودان، في الأمن القومي العربي والأفريقي، ويبدو للبعض أن هذا الربيع تأخر في وصوله إلى «الخرطوم»، لكن تفاصيله تشي بأنه أشد قسوة هذه المرة، سيما أنه يحمل عدة رسائل ومخاطر، واختبارات لا بديل عن اجتيازها والعبور منها إلى السودان، القوي الآمن والمؤثر في محيطه العربي.
لم يقاطعني صديقي السوداني طوال حديثي، سوى بتأكيد كلامي بأن ما يحدث في الخرطوم، امتداد لما بدأ في بغداد 2003. وأن المنطقة لا تزال مهددة بمخاطر ومؤامرات ومخططات.
قلت له: معك حق، فنحن العرب نحتاج الآن إلى مشروع عربي، تلتف حوله الدول والشعوب العربية، فما زلت أقول إنه لن تنجو عاصمة بمفردها من هذه المخاطر، وإن النجاة للعرب لا بد أن تكون جماعية، فالمشاريع التخريبية عابرة للحدود، ومن ثَمَّ، فعلينا الانتباه جيداً لوحدة الصف العربي، واستعادة الروح العروبية، فالقضية باتت الآن قضية وجود.
تحتاج إلى قوة ذاتية، تحمي الخرائط من التمزيق، وتصد جحافل المخططين، فهؤلاء كالزلازل لا ينشطون إلا في الأراضي المشققة، ولديهم تصورات لبناء نظام عالمي جديد على أنقاض منطقة ثرية كالشرق الأوسط، وفي القلب منها دول الإقليم العربي، وهي منطقة ثرية بالحضارة والثقافة والأديان، وثرية بالواقع المادي، حيث تملك الموارد البشرية والطبيعية، مما يجعل مخططي الفوضى ينظرون إليها كجسر لرفاهيتهم التي يجب ألا تتوقف من وجهة نظرهم.
نحن العرب لسنا أنقاضاً ليمروا عليها، والحال كذلك، فإنه وجب علينا أن نرفع شعار «وقفة مع الصديق العالمي»، ونقول إننا كنا في الماضي وسنكون في المستقبل، وذلك لن يتأتى دون وحدة حقيقية، مفتوحة الحدود والجسور والأفكار، وحدة تمنع اللعبة التي جرت منذ عشرين عاماً في بلاد الرافدين، ولعلني هنا أكتب رسالة بحبر التحذير إلى الشقيق السوداني مما يجري، وبأن عليه أن يرفع راية العصيان ضد مخطط الربيع في موجته الثانية الخشنة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رسالة بحبر التحذير رسالة بحبر التحذير



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:01 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024
  مصر اليوم - ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024

GMT 09:36 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام
  مصر اليوم - البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام

GMT 09:49 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل
  مصر اليوم - طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل

GMT 08:38 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس
  مصر اليوم - تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس

GMT 22:40 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

روبي و نيللي كريم معًا في رمضان 2025 بـ«ناقص ضلع»
  مصر اليوم - روبي و نيللي كريم معًا في رمضان 2025 بـ«ناقص ضلع»

GMT 20:41 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الفيشاوي ينفي تغيير كلمات أغنية "نمبر 2"

GMT 18:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة جونيور أجاي فى نهاية تمرين الأهلي وفحص طبي غدًا

GMT 06:30 2020 الإثنين ,26 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الدواجن في مصر اليوم الإثنين 26تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 06:09 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

محمد هنيدي يكشف حقيقة سخريته من الراقصة البرازيلية لورديانا

GMT 17:50 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

أهم وأبرز إهتمامات الصحف الليبية الصادرة الثلاثاء

GMT 05:52 2020 الثلاثاء ,19 أيار / مايو

محمد حماقي ينعى الشيخ صالح كامل

GMT 23:14 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

أسعار الحديد في مصر اليوم السبت
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon