بقلم - جمال الكشكي
كعادته بعد كل صلاة ليوم الجمعة، كان ينتظرني على باب المنزل بابتسامته العريضة لنتناقش معاً في القضايا العامة، في الجمعة الماضي، وجدت جاري السوداني ينتظرني في المكان نفسه، لكن الابتسامة المعتادة غابت عنه، لم أحتج إلى تفسير ذلك، فقطعاً هو حزين على ما تشهده بلاده من أحداث كارثية، تقود إلى غموض غير مفهوم، كما توقعت.
سألني عن مستقبل الأوضاع في السودان؟
قلت له: هذه الأزمة ستأخذ دورتها، وسرعان ما ستزول، فالسودان دولة كبيرة وثرية، ولها موقعها الجيوسياسي المتفرد، وثقلها التاريخي، لكن دعني أكون أكثر صراحة، وأقول لك: إن ما يحدث في السودان هو نتاج فك عذرية الاستقرار في المنطقة العربية، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فقد كان لهذا التاريخ ما بعده، تغيرت قواعد اللعبة، استعدت بلاد الرافدين لتقديم تنازلات كبيرة تحت سيف الحروب العسكرية، والنفسية، والإعلامية، والتحالفات الدولية، وما إن وطئت أقدام بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي، أرض العراق، وقلَب الخرائط العربية متحفزاً بأن شيئاً ما قادماً من وراء المحيط، مختبرات هذا التوقيت سجلت أمام التاريخ أن العراق هدف تكتيكي، ومعبر إلزامي لتنفيذ ما يسمى بـ«مشروع الشرق الأوسط الجديد» كهدف استراتيجي.
تصدعت جدران الاستقرار، احترف بريمر صناعة الفتنة بين الشيوخ والقبائل والعشائر، غازل كل الأطراف، أصاب المؤسسة الوطنية في مقتل، عندما قرر حلّ الجيش وحزب البعث الحاكم، وأجهزة الدولة الأمنية، أراد أن يتأكد من عدم قدرة العراق على استعادة روحه الوطنية، فكتب دستوراً طائفياً، يضمن به استمرار الصراع بين شعب ظل على مدار التاريخ متماسكاً وقوياً.
خفَت ضوء الاستقرار، فابتسم برنارد لويس، صاحب نظرية التقسيم والتنظيم، وتمزيق الخرائط العربية، بات العراق مسرحاً لكل صنوف الإرهاب التقليدي والحديث، أقام الخطر في حضن بغداد عاصمة الحضارة والثقافة، تشوهت ملامح بلاد الرافدين في تلك الفترة، بنظرة عابرة إلى جغرافيا المشرق العربي، لم يغب عن أصحاب نظريات الفوضى والتخريب، أن يضعوا خطة لتسكين وكلائهم في العواصم العربية المختلفة، كل شيء بات جاهزاً لحين إطلاق إشارة البداية.
صدى الضربة العراقية سمعناه في تونس عام 2011، وطرق ما يسمى «الربيع العربي»، أبواب المنطقة، راهن البعض على أن مصر ليست تونس، لكن غاب عنهم أن المنهج واحد والأهداف مشتركة، من المتآمرين وأصحاب مشاريع التخريب والفوضى، لم تسلم القاهرة من ارتدادات تونس.
تداعيات الربيع، باتت مثل الأواني المستطرقة، وكانت الجدران تسقط واحداً تلو الآخر، وتتباعد المسافات بين هذه العواصم، لكن ثمة ناظماً مشتركاً، يربط بينها عنوانه «الدمار والفوضى».
ليبيا وسوريا واليمن، ضمن الدفعة الثانية للأهداف المسكوت عنها، المخطط لم ينتهِ بعد، بعض الأهداف تم تأجيلها لحين التأكد من الموت السريري للدولة الوطنية العربية، ملأوا الخرائط بالإرهاب، والمرتزقة، والميليشيات، أسسوا لمفهوم صناعة القوى الموازية للدولة، استوعبت الشعوب الدرس، استطاعت بعض العواصم استعادة قوتها من جديد، والبعض الآخر في الطريق، نحو الصمود والعودة إلى الدولة، صاحبة المؤسسات الوطنية.
خلال عقد مضى، ظل «العرب»، في حالة طوارئ، للخلاص من بقايا وتداعيات وآثار هذا الربيع، الذي يرفض أن يغادر المنطقة، دون أن يضع بصماته على واحدة من أهم العواصم العربية جغرافياً وتاريخياً، وهي «الخرطوم»، فما يسمى «الربيع»، يعرف جيداً القيمة الاستراتيجية لدولة السودان، في الأمن القومي العربي والأفريقي، ويبدو للبعض أن هذا الربيع تأخر في وصوله إلى «الخرطوم»، لكن تفاصيله تشي بأنه أشد قسوة هذه المرة، سيما أنه يحمل عدة رسائل ومخاطر، واختبارات لا بديل عن اجتيازها والعبور منها إلى السودان، القوي الآمن والمؤثر في محيطه العربي.
لم يقاطعني صديقي السوداني طوال حديثي، سوى بتأكيد كلامي بأن ما يحدث في الخرطوم، امتداد لما بدأ في بغداد 2003. وأن المنطقة لا تزال مهددة بمخاطر ومؤامرات ومخططات.
قلت له: معك حق، فنحن العرب نحتاج الآن إلى مشروع عربي، تلتف حوله الدول والشعوب العربية، فما زلت أقول إنه لن تنجو عاصمة بمفردها من هذه المخاطر، وإن النجاة للعرب لا بد أن تكون جماعية، فالمشاريع التخريبية عابرة للحدود، ومن ثَمَّ، فعلينا الانتباه جيداً لوحدة الصف العربي، واستعادة الروح العروبية، فالقضية باتت الآن قضية وجود.
تحتاج إلى قوة ذاتية، تحمي الخرائط من التمزيق، وتصد جحافل المخططين، فهؤلاء كالزلازل لا ينشطون إلا في الأراضي المشققة، ولديهم تصورات لبناء نظام عالمي جديد على أنقاض منطقة ثرية كالشرق الأوسط، وفي القلب منها دول الإقليم العربي، وهي منطقة ثرية بالحضارة والثقافة والأديان، وثرية بالواقع المادي، حيث تملك الموارد البشرية والطبيعية، مما يجعل مخططي الفوضى ينظرون إليها كجسر لرفاهيتهم التي يجب ألا تتوقف من وجهة نظرهم.
نحن العرب لسنا أنقاضاً ليمروا عليها، والحال كذلك، فإنه وجب علينا أن نرفع شعار «وقفة مع الصديق العالمي»، ونقول إننا كنا في الماضي وسنكون في المستقبل، وذلك لن يتأتى دون وحدة حقيقية، مفتوحة الحدود والجسور والأفكار، وحدة تمنع اللعبة التي جرت منذ عشرين عاماً في بلاد الرافدين، ولعلني هنا أكتب رسالة بحبر التحذير إلى الشقيق السوداني مما يجري، وبأن عليه أن يرفع راية العصيان ضد مخطط الربيع في موجته الثانية الخشنة.