لم تعد الحرب الروسية - الأوكرانية هي المطبخ الوحيد لصياغة نظام عالمي جديد، فقد انتقل الطهاة إلى مطبخ جديد في الشرق الأوسط.
حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة، قد تتسع موائدها للاعبين جدد، ليسوا على وفاق في الحسابات السياسية الدائرة. لكن لحظة الحرب فرضت قواعدها، وحددت أطرافها.
هذه الجولة ليست كسائر الجولات السابقة، من حيث المكسب والخسارة. فالصدمة والمفاجأة أربكتا حسابات إسرائيل، بل إنهما كشفتا عن خواء وفشل أجهزتها الاستخباراتية المتعددة، باعتراف رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي. الضربة موجعة لأحفاد بن غوريون في السلطة.
الظرف التاريخي الذي أنشئت خلاله إسرائيل لم يعد مناسباً لقاموس القرن الحادي والعشرين. فلسطين التي ذاقت النكبة في زمن الصعود الإسرائيلي برعاية عالمية لم تعد هي فلسطين التقليدية التي عاشت 75 عاماً مسرحاً للاعبين من مختلف أنحاء العالم. أنهكتها الوعود والمناورات. طال صبرها، ودفعت أثماناً باهظة من حريتها وشعبها واقتصادها واستقرارها. فنصف شعبها من المهجرين واللاجئين، والنصف الآخر يعيش تحت وطأة الاحتلال الأقسى في التاريخ، يمارس أبشع أنواع الجرائم في حق الإنسانية، فهذا الاحتلال لم تثنه كل المبادرات والاتفاقيات ولا القوانين والمواثيق الدولية عن المضي في تنفيذ مخططاته القديمة المتجددة التي تهدف إلى طرد الأشقاء الفلسطينيين من أراضيهم، وإحلال المستوطنين في أماكنهم، بالطريقة نفسها التي انطلقت منها فكرة الوجود الإسرائيلي قبل عام 1948.
هذه المرة من الحروب الدائرة بين الجانبين، اختلفت الأجيال والقواعد، وموازين القوى، فإسرائيل جاءت عبر نظام عالمي، تشكل نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وهو النظام نفسه الذي أغفل الحق الفلسطيني. الآن بات يتصدع هذا النظام العالمي، وشروخ في جدرانه سببتها الحرب الروسية - الأوكرانية. ملامح مرحلة لنظام عالمي جديد، لكنه هذه المرة بتوقيع صبيحة السابع من أكتوبر 2023.
كان ساكن البيت الأبيض لا يزال نائماً حيث كانت تشير الساعة إلى الثانية عشرة والربع بتوقيت شرق الولايات المتحدة الأميركية، بينما سيد الكرملين كان لتوه مستيقظاً لمتابعة آخر نقطة وصل إليها الجيش الروسي في شرق وجنوب أوكرانيا، في الوقت ذاته كان «التنين الصيني» يحاول فك شفرة تعقيدات الاستراتيجية الأميركية الجديدة في منطقة «الإندو – باسفيك» فوجئ الجميع بمشهد دموي غير مسبوق، في واحدة من الحروب الإسرائيلية - الفلسطينية، واختلطت الأوراق لدى واشنطن وموسكو وبكين.
مخاوف الحسابات طاردت طموح الثلاث الكبار، ما الذي يجري في الشرق الأوسط؟ وهل تتحرك بيادق السباق الثلاثي إلى المنطقة؟ الدعم العالمي لإسرائيل كشف عن هواجس الغرب من اللاعبين الجدد الذين يثبتون أقدامهم في الشرق الأوسط، فواشنطن كانت الأسرع في إرسال أحدث حاملة طائرات إلى شرق المتوسط. الرسائل تحمل أكثر من معنى، رسائل إلى معارضيها في المنطقة، ورسائل أخرى يفهمها الدب الروسي، ويفكر فيها جيداً التنين الصيني.
لا شك وسط هذه الرسائل الدموية، أن هناك أطرافاً خاسرة وأخرى رابحة، فالقراءة الأولية لما يجري الآن على الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية، سوف تعيد ترتيب التوازنات الإقليمية والدولية من جديد.
فإذا كانت واشنطن قد أعلنت، على المكشوف، عن دعمها الكامل لإسرائيل، وأظهرت العين الحمراء لمنافسيها في المنطقة، وبادرت بتقديم المساعدات العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية، وباركت الموقف الإسرائيلي العنيف منذ اللحظة الأولى، فهذا كان دافعاً لحلفاء واشنطن أن يسيروا في الاتجاه نفسه، بل إنهم قطعوا مسافات طويلة في وقت قصير في اتجاه الهجوم على الفلسطينيين، وذلك، ربما زاد من تعقيدات العودة أو مراجعة الذات. أميركا تتحرك وفق حسابات جيوسياسية أوسع من غزة وفلسطين، وحتى أوسع من المنطقة العربية والشرق الأوسط، البيت الأبيض يرتدي نظارة مكبرة يرى بها مستقبل مقعده في النظام العالمي الذي باتت هذه الحرب جزءاً من صياغة ملامحه، ومن ثم، فإن الحسابات الأميركية لن تغفل تحالف منافسيها الذي يضم إيران وأذرعها في المنطقة، بالإضافة إلى روسيا والصين وحلفائهما.
إذا ما نظرنا للحسابات الأميركية، فإن واشنطن ترى أهمية وضرورة حسم هذا الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي سريعاً، حتى لا تدخل في حرب من أكثر من جبهة، وتصبح مشتتة ما بين أوكرانيا وإسرائيل، فضلاً عن أن أميركا لديها معادلات تقول إن الحسم السريع سيحفظ مكانة واشنطن في النظام الدولي المرتقب. في الوقت ذاته ترى موسكو أن هذا الصراع فرصة لإثبات الذات، وصحة وجهة النظر الروسية التي حاولت تسويقها منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، فضلاً عن أن الكرملين يرى الانخراط الأميركي في هذا الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بداية لتخفيف الضغط الغربي على روسيا في جبهة أوكرانيا، وتقليص دعم الناتو لأوكرانيا؛ خصوصاً أنه سيتجه نحو إسرائيل.
بكين أيضاً لديها حساباتها الخاصة. فكل ما أنجزته في الشرق الأوسط خلال الفترات الماضية، تريد تأكيده، والبناء عليه لتعميق حضورها السياسي والاقتصادي، فهي المهمومة بتايوان، وبحر الصين الجنوبي، فضلاً عن أن الصين لديها اعتقاد بأن انشغال أميركا بأحداث الشرق الأوسط، سيخفف الأعباء عن الكاهل الصيني في منطقة «الإندو - باسيفك»، ناهيك من الرؤية الصينية التي ترى في الوجود الأميركي الثقيل في الشرق الأوسط، فرصة كبيرة لانحياز الشعوب إلى سياسة بكين وليس سياسة واشنطن.
إذن، هذه الجولة التاريخية بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، لن تنتهي من دون إعادة ترسيم لحدود التوازنات والقوى الدولية من جديد، بما يفضي إلى كتابة «طبعة جديدة» من النظام العالمي.