بقلم :جمال الكشكي
في ذاكرة الأمم تواريخ، ليست كسائر التواريخ؛ تواريخ أثرت وغيّرت وقلبت الموازين، بل وتركت جروحاً لا تزال تنزف. الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، واحد من التواريخ الدامغة في قلب الولايات المتحدة. عقل واشنطن قبل الحادي عشر، ليس هو عقلها بعده، كل شيء تغير: التكتيك، الاستراتيجية في الداخل الأميركي، وفي خارجه، خرائط العالم تقاسمت فواتير الكارثة، الضحايا عنوان لأكبر خسائر في تاريخ الولايات المتحدة، الضربة موجعة، لكن ليست في عدد الضحايا وكثرة الخسائر، وإنما في تشويه وجه البيت الأبيض.
تهاوى برواز دولة القوة العظمى، تهشمت المصداقية، المعلومات الاستخباراتية لأكبر دول العالم، لم تنجح في حمايتها من مخطط «القاعدة»، الحادث فرض خطاً فاصلاً. واشنطن تفكر في الثأر لنفسها أمام التاريخ. القرار إجباري مهما كانت تكلفته، «القاعدة» و«طالبان» باتا هدفاً رئيسياً، من دون سقف زمني. بوش الابن لم يكن محظوظاً، لم يتوقع أن يخترق الإرهاب بلاد الـ«سي آي إيه»، لكنها الصدمة التي جاءت لتأكيد المتوقع. النصب التذكاري للحادي عشر من سبتمبر، لم يمح من ذاكرة الشعب الأميركي هذه الكارثة، التي غيرت المسار الاستراتيجي للبيت الأبيض. كبرياء واشنطن دفعها للثأر سريعاً، شنّت الحرب على أفغانستان في عام 2001، ثم العراق في عام 2003، وما بينهما ظل الرئيس بوش، مطارداً بهاجس الاحتفاظ بالهيمنة الأحادية، ولقب أستاذية العالم. البحث عن المساحيق السياسية لإعادة تجميل وجه واشنطن، بات المهمة الأولى لساكن البيت الأبيض.
تصدير الشعور بالقوة، كان لا بد أن تتم ترجمته واقعياً. أقامت القوات الأميركية في العاصمة الأفغانية كابل لمدة 20 عاماً. تضخمت فواتير الخسائر البشرية والاقتصادية، وفي العراق كانت المختبرات الأميركية تعرف مهمتها جيداً، كتبت رؤيتها بعنوان «الفوضى والتمزيق والتخريب». قدمت وصفة للعلاج على لسان بوش، في خطاب إعلان الحرب على العراق في 19 مارس (آذار) 2003، سقط نظام صدام حسين، اللعبة كانت ولا تزال كبيرة، هدم الدولة الوطنية بدوافع ما يسمى الديمقراطية، ومحاربة الإرهاب، لكن في الحقيقة فإن هذا النوع من الحرب والتدخل في شؤون البلاد، هو أهم الطرق لصناعة الإرهاب، فمع الغزو الأميركي للعراق، وحل الجيش، وجهاز المخابرات العراقية، بات العراق عنواناً تلوذ به التنظيمات والجماعات الإرهابية. ظلت تتمدد في المركز والأطراف حتى سيطرت على مساحات، تجاوزت حدود العراق، إلى الأراضي السورية، وبدأنا نعرف جماعات من نوع «داعش» في سوريا والعراق، و«ولاية خراسان» في أفغانستان.
صدّرت لنا الولايات المتحدة، عبر أربعة رؤساء: جورج بوش الابن، وباراك أوباما، ودونالد ترمب، وجو بايدن، استراتيجيات وأدوات مختلفة في التعامل مع الإرهاب، منذ 11 سبتمبر 2001، فكل منهم له بصمته الخاصة. انحاز بوش الابن لنظرية الاحتلال المباشر، فذهب إلى كابل وبغداد بآلاف الجنود، وكان يعلم أن هناك خسائر بشرية واقتصادية محققة، لكنه كان مرغماً لاستعادة الصورة النمطية لأميركا كقوة، باغتتها ضربة فجائية.
أما بصمة أوباما، فقد اختلفت عن بصمة سلفه؛ إذ فضّل الانسحاب من صحراء تورا بورا، والرافدين لأسباب عديدة، ومقدمتها حساباته الذكية لتقليل حجم الخسائر المادية والبشرية؛ إذ إنه كان ينام ويستيقظ على كابوس عودة نعوش الجنود الأميركيين، علاوة على أن عقدة فيتنام، لم تبرح خياله. رؤية أوباما المغايرة مكّنته من تصفية زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، في مايو (أيار) عام 2011، هنا بدأت الصورة تتغير، سقط رأس «القاعدة»، بدأ ساكن البيت الأبيض يلتقط أنفاسه، واشنطن تسير بدقة في طريق الثأر لأبنائها وتاريخها. جاء ترمب، ذو الرؤية المغايرة تماماً، آمن بنظرية الانكفاء على الذات والمصالح الأميركية أولاً، فهو صاحب استراتيجية اعتمدت نظام الحرب السريعة والتصفية الحاسمة، في أقل وقت ممكن، تمكن من قتل أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، وأسهم في انهيار التنظيم ودولته المزعومة عام 2019.
أما بايدن، فقد اعتمد فلسفة الانسحاب الكامل والنهائي لقواته المسلحة، من أفغانستان والعراق، بعد أن صارت الفواتير باهظة التكاليف، فحجم الخسائر خلال العقدين الماضيين، ومنذ أحداث 11 سبتمبر بلغ نحو 4 تريليونات دولار، لم يعد الاقتصاد الأميركي يحتمل المزيد. اتخذ بايدن قراره واستكمل مواجهته، أمر بتصفية زعيم تنظيم «داعش» في شمال سوريا، ماهر العقال، ثم أمر بقتل أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة»، أثناء أحداث 11 سبتمبر. إذن، نحن أمام حدث وأربعة رؤساء أميركيين، وما بينهما سقطت الرؤوس الكبرى للتنظيمات الإرهابية الأكبر في العالم، لكن في هذه الذكرى الحادية والعشرين لأحداث 11 سبتمبر، نطرح السؤال: هل كانت الحرب الأميركية خلال العقدين الماضيين على الإرهاب، أم على الإرهابيين؟
الشواهد تقول، إن الحرب استهدفت في المقام الأول قادة التنظيمات الإرهابية، ولم تستهدف الإرهاب كفكرة، بل إن التحولات في بعض المناطق والأزمنة، تؤكد أن الولايات المتحدة، كانت تستخدم الفكرة ذاتها للمناورة أحياناً، وللحرب أحياناً أخرى، وللغزو الفكري في معظم الأوقات. هنا، وفقاً للدراسات والأبحاث، فإن فلسفة أميركا في التعامل مع الإرهاب، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوظيف السياسي والاستخباراتي، فلو كانت الحرب ضد الإرهاب طوال العقدين الماضيين، فهذا الكلام مردود عليه، سيما أن أميركا غزت العراق، وأفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب لكن بعد عقدين من الزمان، يتأكد لنا أن الحرب يحكمها جدول أعمال آخر غير قصة مكافحة الإرهاب، ربما نجد في الطريق مقتل زعيم لأحد التنظيمات، وهذا أيضاً مقصود في أدبيات السياسة الأميركية والعالمية.
الأمر الآخر الذي يدلل على بقاء الفكرة وتوظيفها يتمثل في الانتقائية، وتعمد تناسي تنظيمات إرهابية في بعض المناطق، مثل أفريقيا، وشرق آسيا، ومنطقة القوقاز، بينما اقتصرت الحرب فقط على سوريا والعراق. الرسالة هنا أننا في استقبال الذكرى الحادية والعشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولا تزال فكرة الإرهاب تهدد الأمن القومي العالمي، وهو ما يحتاج إلى مقاربة جديدة تختلف عن مقاربات العقدين الماضيين.