بقلم - محمود عبد المنعم القيسونى
ليلة 24 من إبريل عام 1946، أقلعت عدة أسراب من القاذفات الثقيلة اللانكستر والسبتفاير البريطانية للإغارة على مدينة ميونخ الألمانية وذلك بهدف تحطيم الروح المعنوية للشعب والجيش الألمانيين، حيث كانت ميونخ هى مقر ولادة الحزب النازى وقاعدة انطلاقه وإدارة الرايخ الثالث.. كانت باختصار روح النازيين. كما أنها كانت ضربة انتقامية مبيتة ردا على ما قامت به القوات الجوية الألمانية من تدمير شامل لعدد من المدن البريطانية خلال الشهور الأولى من اندلاع الحرب العالمية الثانية.
كانت نتيجة هذه الغارة المدمرة بكل المقاييس تدمير محطة السكك الحديدية الرئيسية، وأكثر من سبعة آلاف مبنى؛ منها مبنى أكاديمية ألترا والتى كانت أعظم مراكز الدراسات الجيولوجية العلمية فى العالم دون جدال، وكانت تضم قاعاتها ذات الأسقف المرتفعة أهم وأكمل مجموعة حفريات وهياكل عظمية نادرة فى العالم منها عدد أربعة هياكل عظمية ضخمة لديناصورات عمرها 95 مليون سنة اكتشفت بالواحة البحرية بالصحراء الغربية المصرية عام 1911، لم تكن معروفة ولم يعلم بوجودها علماء العالم فى ذلك الوقت.
• • •
قصة هذه الديناصورات واجبة التسجيل فمكتشفها هو العالم الألمانى إرنست فريهر ستروميرفون ريخينباخ المنحدر من أسرة نبيلة، والأستاذ بجامعة ميونخ. بعد تخرجه سافر إرنست إلى مصر وإلى الفيوم أواخر عام 1910 حيث اكتشف هياكل للفيلة والثعابين البحرية الضخمة والخرتيت والقردة وتماسيح وعروس البحر وطيور وسلاحف عاشت بمصر منذ ملايين السنين. وفى العام التالى، وبتمويل محدود جدا وعدد ثلاثة مساعدين مصريين وأربعة جمال، تحرك يوم الثالث من يناير عام 1911 من الفيوم جنوبا إلى الواحة البحرية. ويوم 11 من يناير، بلغ منخفض البحرية والتى كانت معروفة باسم الواحة الصغيرة لعدة قرون. وبعد هبوطهم فى اتجاه قرية منديش، المكان المختار لإقامته، قدم نفسه لمأمور الواحة وطبيبها.
يوم 14 من يناير، بدأ فى استكشاف قاع منخفض الواحة وكانت الأيام الثلاثة التالية مخيبة له حيث وجد فقط حفريات لبعض الكائنات البحرية والتماسيح، وفى اليوم التالى أى 17 من يناير وكان الجو قارس البرودة تحرك صباحا فى اتجاه الشمال وهو فى حالة إحباط شديدة وإرهاق ــ ومر اليوم دون أى إنجاز يذكر فنصبوا الخيام مساء على الجانب الغربى من جبل الديست.
يوم 18 يناير عام 1911 وعلى الجانب الجنوبى من الجبل اكتشف ثلاث عظام ضخمة بأطوال تعدت المتر للقطعة الواحدة وتأكد له أنه أمام أجزاء من هيكل ديناصور خصوصا عندما اكتشف بجوارهم مخلبا ضخما، فسجل أنه اكتشف أول ديناصورات على أرض مصر ــ وقام بتغليف هذه العظام وبعد مسح دقيق لعدة أيام لنفس الموقع اكتشف خلالها هياكل أخرى. تحرك إرنست شمالا عائدا إلى الفيوم ثم للقاهرة حيث ألقى عده محاضرات عن اكتشافاته، وفى أواخر شهر فبراير من نفس العام سافر بباخرة لميونخ ومعه العظام المكتشفة وقضى السنين التالية فى نقل باقى الهياكل وتركيبها بأكاديمية ألترا بميونخ حيث نجح فى تجميع أربعة هياكل عملاقة.
قامت الحرب العالمية الثانية وتم تدمير المتحف والهياكل الأربعة خلال الغارة المذكورة فى أول المقال، وقد ذُكر إرنست فى التاريخ ليس كأول من اكتشف ديناصورات بمصر، بل كالعالم الذى فقد ديناصوراته وثمرة حياته بالكامل. وأوائل القرن الحالى تم اكتشاف هياكل ديناصورات نباتية عملاقة أخرى يبلغ ارتفاعها 28 مترا ووزن الواحدة 80 طنا (سبينوسورس) وذلك بواحة البحرية عن طريق فريق بحث أمريكى من جامعه بنسلفانيا. للأسف، حسب اتفاقية موقعة بين جامعة بنسلفانيا ووزارة البترول تم نقل القطع المكتشفة من الهيكل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لترميمها ودراستها، ثم إعادتها لمصر وعودة البعثة لاستكمال استخراج باقى الهيكل العملاق وهو ما تم، ليكتشفوا قيام هيئة التنمية الزراعية بتدمير كامل الموقع وتحطيم باقى الهيكل لمحاولة استزراع هذا القطاع دون تفعيل قانون دراسة الأثر البيئى ولا احترام القرار الوزارى الذى أعلنها محمية طبيعية ثم انسحبوا لعدم صلاحية الأرض للزراعة.
كما أن العظام التى تم ترميمها وإعادتها لمصر تحطمت تماما بقرية البضائع بمطار القاهرة الدولى وتم عرضها محطمة فيما يسمى بالمتحف الجيولوجى المؤسف على كورنيش النيل المؤدى للمعادى بهذه الواحة والتى ألقبها بواحة الديناصورات. أشارت الدراسات العلمية أن واحة البحرية كانت منذ ٩٨ مليون سنة أخطر قطاع على وجه الكرة الأرضية، حيث ضمت تنوعا ضخما من الديناصورات المرعبة آكلة اللحوم ومنها ديناصور غير معروف ولم يطلق عليه اسم حتى اليوم له وجه يشبه الكلب البولدوج، تم اكتشافه أوائل شهر يونيو من عام ٢٠٢٢ عن طريق بعثة مصرية أمريكية برئاسة الباحث المصرى بلال سالم بجامعة أوهايو، وهو خريج قسم علم الأحافير الفقارية بجامعة المنصورة، أنشط جهة علمية بمصر فى هذا المجال.
• • •
مازال التنقيب والبحث جاريا، فرمال مصر تحتضن كنوزا وتاريخا لا حصر لها، مع وجوب الإشارة للاكتشافات الحفرية البالغة الأهمية بالفيوم ومنها الحلقة المفقودة بين السحلية الملك والتى كانت تتحرك على اليابس وحوت اليوم السابح فى محيطات العالم، وبيت الاكتشافات التى تمت بقطاع واحة سيوة وغرب الدلتا. واجب بناء متحف جيولوجى يليق بعظمة مكانة مصر فى هذا المجال بعد مرور أكثر من 35 عاما على هدم متحفها التاريخى الرائع بشارع الشيخ ريحان أمام مسرح الجامعة الأمريكية بميدان التحرير لصالح مترو الأنفاق. كما يجب سن قانون يحظر نقل وانتقاء الحفريات وخروجها من مصر تنفيذا للاتفاقية الدولية التى وقعتها مصر عام 1977.
أخيرا يهمنى تسجيل الآتى وهو صادم بكل المقاييس؛ فبينما وزارة البترول لا تهتم نهائيا بعلم الحفريات التاريخية ولا بالاكتشافات الهائلة لحفريات كائنات ما قبل التاريخ والمنتشرة فى باطن أرض مصر والتى تثير اهتمام المؤسسات العلمية وعلماء العالم منذ أوائل القرن الماضى، وتجذب عشرات بعثات التنقيب المصرية والأجنبية (كل المكتشف طوال الـ120 سنة الماضية عبارة عن قشور لما هو فى باطن الأراضى المصرية) والدليل على ذلك الحال المؤسف للمتحف الجيولوجى المصرى ــ فبينما هذا هو موقف وزارة البترول المصرية يتسابق العالم والقطاع الخاص حيال بناء متاحف رائعة لعرض الهياكل والحفريات المكتشفة وطبع المجلدات والكتب الفاخرة وشراء الهياكل المكتشفة بملايين الدولارات لعرضها بمتاحفهم. الهياكل بلغ ثمنها أرقاما فلكية، فقد قامت صالة كريستى للمزادات فى شهر مايو من عام ٢٠٢٢ ببيع هيكل ديناصور تى ريكس بمبلغ 12 ونصف مليون دولار، ونهاية شهر يونيو من عام ٢٠٢٢ قامت صالة سوذبيز للمزادات ببيع هيكل لديناصور يلقب بجورجوسورس بمبلغ 8 ملايين دولار. وعام ٢٠٢١، تم بيع هيكل ديناصور ارتفاعه 9 أمتار بمبلغ 6 ملايين ونصف المليون دولار، وعام ٢٠٢٠ قامت صالة كريستى للمزادات ببيع هيكل لديناصور تى ريكس بمبلغ 31 مليون دولار ليكون الأغلى حتى اليوم.
كل هذا يحدث بالعالم وبالمؤسسات العلمية الدولية ونحن نحطم ونهمل هذه الكنوز والتى تقدر بملايين الدولارات. هذا غير الثقل العلمى الهائل الذى نال اهتمام عالم اليوم لاستكمال تاريخ الكرة الأرضية (تم إدماج اسم مصر بأسماء عدد من الديناصورات). هذا نداء وطنى قمت بنشره عشرات المرات بالصحف القومية والخاصة، مطلوب من وزارة البترول تشييد متحف جيولوجى حديث ولائق بمكانة مصر لعرض الكم الهائل من الحفريات المكتشفة والتى سيتم اكتشافها مستقبلا بإذن الله تعالى.