بقلم - محمد سيد رصاص
في ثمانينات القرن الماضي حصل تحالف بين فصيلين معارضين لحكم الرئيس الإثيوبي منغستو هيلا مريام هما: «الجبهة الشعبية لتحرير التقراي» بزعامة مليس زيناوي و «الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا» بزعامة أسياس أفورقي. كان هناك اتفاق سري بين الفصيلين للسماح للإريتريين بعقد استفتاء لتقرير المصير بعد إطاحة هيلا مريام، وتطور التحالف إلى صداقة شخصية بين زيناوي وأفورقي. ساعد هذا كثيراً في استقلال سلس عن إثيوبيا نالته إريتريا عام 1993 بعد سنتين من تولي زيناوي السلطة في أديس أبابا. لم يكن حكم زيناوي مستقراً في التسعينات ما دام أن قومية التقراي أو (التيغري) أقلية لا تتجاوز 6 في المئة من السكان سيطرت على مفاصل السلطة، وأولها الجيش، في مسار معاكس لقرون مديدة من حكم قومية الأمهرا (30 في المئة). من أجل تقوية وضعه لجأ زيناوي إلى تشكيل «حزب الجبهة الثورية الديموقراطية لشعوب إثيوبيا» بالتحالف مع حركات من قومية الأورومو (32 في المئة) وحركات صومالية في إقليم أوغادين (6 في المئة) ومع حركات أمهرية ولكن هامشية حيث ظلت المعارضة الرئيسية لحكم زيناوي (توفي عام 2012) عند الأمهرا.
كان نموذج زيناوي في الحكم يتشكل من مزيج من احتكار السلطة عبر الحزب، ولكن عملياً لأفراد قومية التقراي المنتشرة في الشمال عند المثلث الحدودي الإثيوبي- السوداني- الإريتري، مع قطاع الدولة المسيطر على الاقتصاد. في المقابل استطاع أفورقي، من خلال علاقات مع واشنطن وتل أبيب، أن يقوم بتعويم دور دولي لدولة صغيرة فوق حجمها الفعلي في التسعينات، وهذا كان بارزاً في دول (الإيغاد IGADD) التي تولت، بدعم أميركي- أوروبي، ملف الصراع في جنوب السودان في التسعينات، حيث كان الدور الإريتري يفوق الإثيوبي والكيني ولا يوازيه سوى دور الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي كان دوره معوماً من الغرب أيضاً، في ملفات رواندا وشرق الكونغو. خرجت إثيوبيا من عنق الزجاجة حين دخلت في توتر في العلاقة مع الحكم الاسلامي في الخرطوم، إثر محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995، حيث كان زيناوي يشارك الثنائي البشير- الترابي في الموقف السلبي من تنامي الدور الإريتري عندما كان أفورقي، مع موسيفيني، الداعم الرئيسي برضى غربي لجون قرنق الزعيم الجنوبي السوداني المتمرد وللمعارضة السودانية الشمالية التي اتخذت من أسمرا مقراً لها. هذا التوتر المكتوم بين زيناوي وأفورقي انفجر في حرب 6 أيار (مايو) 1998- 18 حزيران (يونيو) 2000 التي وضعت حداً لانتفاخ البالون الإريتري حيث تكلمت في تلك الحرب الجغرافيا والديموغرافيا قبل أن تتكلم الأسلحة.
هنا، كان القرن الجديد ميداناً زمانياً لتصاعد الدور الإقليمي الإثيوبي، وكان الغزو الإثيوبي، المدعوم أميركياً، للصومال بعد سيطرة «المحاكم الاسلامية» على العاصمة مقديشو عام 2006، إحدى العلامات الكبرى على ذلك. ترافق هذا مع دعم أميركي وإسرائيلي لمشروع سد النهضة الإثيوبي، ما جعل مصر في موقف ضعيف، فيما شهد العقدان الماضيان نمواً اقتصادياً في إثيوبيا لتسجل في عامي 2017 و2018 وضع الدولة الأسرع نمواً في القارة الأفريقية. في المقلب الآخر كان أفورقي يتخبط بعد رفع الغطاء الدولي عنه لمصلحة الإثيوبيين، فتقارب مع ايران ودخل في توترات مع اليمن، ثم في حرب مع جيبوتي عام 2008، وهذا ما ترافق مع زيادة قمع أفورقي الإريتريين، لتصبح إريتريا الدولة الأكثر تصديراً للمهاجرين في الدول الأفريقية نحو أوروبا عبر ليبيا في السنوات الخمس الماضية.
الوضع الإثيوبي هذا يفسر المتغيرات في أديس أبابا: رئيس وزراء جديد مسلم من قومية الأورومو (ومن أم مسيحية أمهرية) هو آبي أحمد علي يتولى السلطة في 27 آذار (مارس) 2018، في عملية انتقال سلسة، يقوم بإخراج السجناء السياسيين ويعطي الحرية للأحزاب المعارضة وفي الوقت ذاته يتجه نحو تخفيف قبضة الدولة على الاقتصاد. ينفتح على المحيط الإقليمي نحو السعودية والإمارات ونحو تأييدهما في الصراع اليمني ضد الحوثيين وداعميهم في طهران.
هذه المرونة تجاه الإقليم لا يمكن تفسيرها من دون الاقتصاد، حيث النمو وحيث التنافس الأميركي- الصيني في الاستثمار، فالصين التي هي الشريك الاقتصادي الأكبر لمجموع القارة الأفريقية هي أيضاً الشريك الاقتصادي الأكبر لإثيوبيا، وهي التي بنت ومولت تجديد سكة حديد أديس أبابا- جيبوتي التي افتتحت بداية هذا العام بعد قرن من البناء الفرنسي لها، وهي تشكل رئة إثيوبيا بعد اغلاق الموانئ الإريترية منذ الحرب، فيما شركة (بلاك رينو) الأميركية وقعت عقداً لبناء خط لنقل النفط بين جيبوتي والعاصمة الإثيوبية عام 2015. كانت المفاجأة الكبرى في 8 تموز (يوليو) 2018 عندما توجه رئيس الوزراء الإثيوبي للعاصمة الإريترية ووقع في اليوم التالي اتفاق إنهاء النزاع الحدودي وقبول إثيوبيا نتائج اللجنة الدولية للتحكيم التي قضت عام 2002 بأحقية إريتريا في الأراضي المتنازع عليها والتي احتلها الإثيوبيون بالحرب، واتفاق استئناف العلاقات الديبلوماسية.
هنا، يقال إن دولة الإمارات التي تشارك إثيوبيا في ميناء بربرة في جمهورية أرض الصومال عبر (شركة موانئ دبي العالمية)، وهي التي لها قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري، كانت مشجعاً كبيراً للمصالحة الإثيوبية- الإريترية، وخصوصاً بعد إلغاء جيبوتي في شباط (فبراير) 2018 عقد استثمار (شركة موانئ دبي العالمية) لأحواض في ميناء جيبوتي. على الأرجح كان شعور جيبوتي باحتمالات الخسارة من اللقاء الإثيوبي– الإريتري هو الدافع وراء اللقاء الجيبوتي- الإريتري في 6 أيلول (سبتمبر) 2018 بعد عشر سنوات من الحرب بينهما، ولكن هذا لا يلخص المشهد الجيبوتي تماماً حيث توجد في تلك الدولة الملاصقة غرباً لباب المندب القاعدة الصينية العسكرية الوحيدة بالعالم بالتجاور مع قاعدة عسكرية للمارينز الأميركي ومع قاعدة فرنسية.
هناك كلام كثير عن جسر سيقام بين جيبوتي واليمن سيكون جسراً بين قارتين مثل جسر البوسفور في إسطنبول. يعطي تجاور القاعدتين العسكريتين، الأميركية والصينية، صورة عن حجم التنافس بين عملاقي العالم في الاقتصاد على القارة الأفريقية التي تقول الكثير من المؤشرات بأنها ستكون ميدان الصراع الأكبر في القرن الحادي والعشرين بسبب إمكاناتها الاقتصادية. يدل التنافس الأميركي- الصيني في الاستثمار بإثيوبيا اقتصادياً ومالياً ليس فقط على أهمية افريقيا، ولكن على أهمية القرن الأفريقي من الناحية الجغرا- سياسية- اقتصادية. هناك تفسيرات بأن الصراع في دولة جنوب السودان هو صراع أميركي- صيني من خلال سيلفاكير وريك مشار. يبدو أن تقاتل واشنطن وبكين على كسب أديس أبابا هو مؤشر الى أهمية إثيوبيا في المرحلة المقبلة.
ومن باب الحكمة وتقدير الموقع الجيوسياسي أن تكون جدة مكاناً للتوقيع النهائي على اتفاق السلام الإثيوبي- الإريتري في 16 أيلول 2018، فالمملكة العربية السعودية الشريك الإقليمي الكبير في الضفة المقابلة من البحر الأحمر، وهي القادرة على تعاون اقتصادي– سياسي راسخ مع الضفة الأفريقية التي يفترض أن تستقر سياسياً لتضمن هي ايضاً استمرار التنمية والنهضة الاقتصادية. هنا لا يمكن للحاكم المصري أن يخاصم الإثيوبيين، فنهر النيل كان الدافع وراء العلاقات الطيبة للرئيس جمال عبدالناصر مع الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي على رغم انحيازاتهما المتفارقة بين طرفي الحرب الباردة. أما السودان فيحتاج إلى استقرار داخلي قبل أن يتفاعل مع عمليات الاستقرار في الإقليم. وكل هذه الأمور تنتظر عودة اليمن إلى كنف الشرعية ليستقر هو الآخر ويلتحق بالركب.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع