عبر تاريخها الطويل خاضت «صاحبة الجلالة» معارك شرسة دفاعا عن حق المواطن فى المعرفة، لم تخسر الصحافة منذ دخولها إلى مصر قبل قرن ونصف القرن معركة ضد الحكومة، سقطت أنظمة وحكومات ومؤسسات وبقيت الصحافة تقوم بدورها فى إخبار الناس، تمرض أحيانا لكنها لم ولن تموت.
فى نوفمبر عام 1881، أصدرت حكومة شريف باشا قانون المطبوعات بهدف حصار الصحف التى دعمت وساندت الثورة العربية، الزعيم أحمد عرابى قال عن هذا القانون إنه صدر «لإيقاف الصحف الوطنية والقضاء على حرية الصحافة»، وعندما كُلف محمود سامى البارودى برئاسة الوزارة شكل لجنة لإلغاء قانون المطبوعات لكن الأحداث كانت أسرع منه.
مواد قانون المطبوعات فُصلت كى تمكن الحكومة من إحكام قبضتها على الصحافة، أجازت «للحكومة فى كل الأحوال، حجز وضبط جميع الرسومات والنقوشات، مهما كان نوعها أو جنسيتها، متى وضحت أنها مغايرة للنظام العمومى أو الدين، وكل جريدة أو رسالة دورية تشتغل بالمواد السياسية أو الإدارية أو الدينية، وتصدر بانتظام فى أيام معلومة أو بدون انتظام، لا يجوز نشرها إلا بإذن من الحكومة، كما أن التبليغات التى تصدر من نظارة الداخلية بقصد نشرها يجب أن تكون فى صدر أى صحيفة».
بعد هزيمة الثورة العرابية، حل الاحتلال الانجليزى على مصر، وقررت سلطاته نفى قادة الثورة الأفغانى والنديم ومحمد عبده، ومعاقبة الصحف التى دعمتهم، فأغلقت «الزمان» و«السفير» وعطلت «المفيد» و«النجاح».
مع الوقت وارب اللورد كرومر المعتمد البريطانى باب حرية الصحافة وأهمل العمل بقانون المطبوعات، ودعم «المقطم» لتصبح لسان حال الاحتلال، فى المقابل ظهرت صحف مثل «المؤيد» و«اللواء» و«الاستقلال» و«القطر المصرى» تناصب الاحتلال العداء.
وبعد دور الصحافة فى فضح ما جرى فى «دنشواى»، طلب اللورد الدون جورست خليفة كرومر من حكومة بطرس باشا غالى إعادة بعث قانون المطبوعات بدعوى أن «عدم تنفيذ قانون المطبوعات لم يزد الجرائد إلا تماديا فى التطرف والخروج عن الحد»، فأصدر مجلس الوزراء فى 25 مارس 1909 قراره بإعادة العمل بالقانون، وكان الهدف منه مراقبة الصحف ومصادرتها وإغلاقها إذا اقتضى الأمر، ووضع القيود على الأقلام.
ذهب محمد فريد زعيم الحزب الوطنى إلى الخديوى عباس حلمى فى نفس اليوم الذى صدر فيه ذلك القانون بعريضة احتجاج على قرار «الوزارة البطرسية»، واشتعلت المظاهرات الرافضة لهذا التضييق على الصحافة.
الأستاذ أحمد حلمى كتب فى «القطر المصرى»: «إن ذلك البعث ما هو إلا للتضييق على الصحافة الوطنية التى بدأت ترشد وتنتقد أعمال الاحتلال وحكوماته»، فرد عليه بطرس غالى فى حوار لـ«البروجريه»، قائلا: «الغرض من القانون ليس منع انتقاد الحكومة بصدق وحق، كلا بل نحن نقابل الصحف التى تظهر للحكومة أخطاءها بالشكر والامتنان»، فعلق حلمى: «ما هو الفرق بين التقييد بسلاسل من ذهب أو من حديد؟، أليس التقييد واحدا على كل حال».
ووفقا لما أورده الدكتور إبراهيم عبده فى كتابه «تطور الصحافة العربية»، تزعم حلمى إحدى المظاهرات الرافضة للقانون وقدر عدد المشاركين فيها بـ 25 ألفا من المصريين فى 31 مارس 1909، وفرقتهم قوات البوليس وزج برئيس تحرير «القطر المصرى» أحمد حلمى ورئيس تحرير «اللواء» عبدالعزيز جاويش إلى السجن، بتهم منها العيب فى الذات الخديوية وتكدير السلم العام بمقتضى هذا القانون.
وشهدت الحقبة الحزبية، ما بين دستور عام 1923 حتى قيام ثورة يوليو، صراعا عنيفا بين التقييد والانفراج، وبالتحديد فى عهود مصطفى فهمى باشا وإسماعيل صدقى باشا وأحمد زيوار باشا وتوفيق نسيم باشا، أو ما عُرف بحكومات «الأقليات الوطنية»، وفى تلك الفترة ظهر اسم الصحفى محمود عزمى المدافع الأول عن الحقوق والحريات الصحفية والذى أصبح رئيسا لبعثة مصر الدبلوماسية فى الأمم المتحدة فى وقت لاحق.
خاض عزمى معارك شرسة ضد محاولات تقييد حرية الصحافة، وانتقد المادة 15 من دستور 1923 الخاصة بالصحافة، والتى نصت على أن: «الصحافة حرة فى حدود القانون، والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور، إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعى»، ورأى عزمى أن العبارة الأخيرة ما هى إلا استثناء يبطل مفعول حرية الصحافة تماما ويخضعها إلى ما كانت عليه فى عهد التحكم الفردى.
وبعد سقوط وزارة مصطفى النحاس، تولى إسماعيل باشا صدقى رئاسة الوزراء، وكان كارها للديمقراطية والصحافة ودستور 1923، فقرر إلغاءه، وأصدر دستور 1930، وبطش بكل صاحب رأى وألقى القبض على معارضيه وصادر ووقف طباعة الكثير من الصحف، فخاض عزمى معركة ضد جور حكومة إسماعيل على الحريات الصحفية، انتهت بهجرته إلى لندن ليصدر من هناك جريدة «العالم العربى» بالإنجليزية لتتحول إلى لسان حال المعارضة المصرية فى أوروبا.
وقبل ثورة يوليو بشهور وتحديدا فى عام 1951 تقدم النائب الوفدى استيفان باسيلى بمشروع قانون لتغليظ العقوبات على جرائم النشر، وذلك إثر الحملات الصحفية التى تعرضت لها حكومة الوفد، واستطاعت الصحافة أن تنتفض لحريتها، ووقف النائب عزيز فهمى تحت قبة البرلمان صارخا «كيف تكون حكومة الوفد التى تنادى بالحريات معولا لهدم الحريات؟».
وعقدت نقابة الصحفيين جمعية عمومية للاحتجاج على هذه التعديلات، وأصدرت الجمعية قرارا باحتجاب الصحف يوما لتسجيل رفضها للقانون، واضطر باسيلى أمام غضبة الصحفيين إلى سحب مشروعه وعندما سُئل عن أسباب السحب، قال «العذراء جاتنى فى المنام وقالت لى اسحبه».
قبل 23 عاما، مرر مجلس الشعب فى 27 مايو عام 1995، القانون رقم 93 الخاص بتنظيم الصحافة والذى اشتهر بقانون حماية الفساد، وصدق عليه حسنى مبارك رئيس الجمهورية حينها فى ذات الليلة.
خاض مجلس نقابة الصحفيين بقيادة النقيب إبراهيم نافع آنذاك معركة شرسة لاسقاط القانون، وانعقدت الجمعية العمومية غير العادية فى العاشر من يونيو 1995 وظلت فى حالة انعقاد مستمر لمواجهة القانون الذى وضع قيودا غير مسبوقة على الحريات الصحفية والذى قال عنه الأستاذ هيكل فى كلمة للجمعية العمومية: «وأشهد آسفا أن وقائع إعداد هذا القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقاب وأنه يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها».
وشهدت النقابة أكبر حركة احتجاجات على مدى تاريخها وغطى الصحفيون جدران نقابتهم بالرايات السوداء، وتوالت مبادرات الغضب فاحتجبت الصحف الحزبية، وقررت بعض الصحف تنظيم حركات اعتصام بكامل محرريها بحديقة النقابة.
وعلى إثر غضبة «أصحاب الجلالة» تسلم أسامة الباز مستشار الرئيس ملف الأزمة وبدأ اتصاله بعدد من كبار الصحفيين والنقابيين للبحث عن صيغة للخروج من الورطة، واستقبل مبارك وفدا من الصحفيين حضر مع النقيب وأعضاء المجلس وكل النقباء والنقابيين السابقين وفى مقدمتهم كامل زهيرى وحافظ محمود، وانتهى الأمر بإسقاط القانون.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع