«إنى لم أخرج أشرا، ولا بطرا ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح فى أمة جدى، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلنى بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا أصبر حتى يقضى الله بينى وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين».
كانت تلك وصية الحسين بن على سبط رسول الله عليهم جميعا السلام، لآله وصحبه، سلمها لأخيه محمد بن الحنفية، قبل أن يترك المدينة قاصدا العراق ثائرا على انحراف يزيد بن معاوية، رافعا راية الحرية والإصلاح فى مواجهة الظلم والعدوان، فصار لمن بعده آية فى التضحية.
رفض سيد الثوار وأبى الشهداء بيعة يزيد ليس طمعا فى سلطة أو رغبة فى مُلك يعلم ــ وهو ابن رسول الإسلام ــ أنه زائل، بل خرج على حاكم أراد أن يسحق إرادة الأمة، «على الإسلام السلام، إذا بليت الأمة براع مثل يزيد»، قال الحسين رضوان الله عليه رافضا المساومة، وزاد على ذلك رغم يقينه بأنه ذاهب إلى مصيره الذى بشره به جده: «والله، لا أعطيكم بيدى إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد».
سعت الآلة الإعلامية ليزيد إلى إقناع الناس بقبول بطش السلطة لخصومها وقمعها لمعارضيها، فأشاعت مصطلحات من عينة «سلطة الأمر الواقع، ومشروعية الحاكم المتغلب، وطاعة ولى الأمر حتى ولو كان فاجرا اجتنابا للفتنة»، واعتلى الولاة وأتباعهم المنابر فخطبوا فى الناس مطالبين إياهم بالاعتصام بطاعة الله وأولى الأمر وعدم تفريق كلمة المسلمين وإثارة الفتن حتى لا يختلفوا فتسقط الدولة.
فى المقابل ناضل إمام الثوار لإقناع الناس برفض الذل، وإعلاء قيم الكرامة والحرية والحق والعدل، دعا إلى إصلاح الفساد ومقاومة استبداد وظلم يزيد الذى رأى الحسين أنه غير مؤهل للحكم فرفض بيعته وقال لوالى المدينة عندما طلب منه البيعة: «أنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ويزيد رجل فاسق شارب خمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق... مثلى لا يبايع مثله».
اختار الحسين الموت فى عز بدل من الحياة فى ذل، قرر الثورة على دولة بنى أمية، وذهب إلى الموت راضيا مرضيا ليضرب مثلا للتضحية فى سبيل الحرية والكرامة، ويرسى نموذجا فى التمرد على الظلم.
لم يظلم الحسين نفسه ولا أهله عندما سار إلى كربلاء، ولم يشق عصا الطاعة كما روجت دوائر بنو أمية، لكنه أراد أن يرسم الطريق للشعوب المقهورة التى ترزح تحت حكم الحديد والنار، هتف ابن على «هيهات من الذلة» عندما خير بين الاستسلام أو السيف، فاختار الموت على طاعة الحاكم المتغلب، ليقدم أبلغ شهادة فى تاريخ الإنسانية، فينزع الشرعية ليس عن حكم يزيد فقط بل عن كل المستبدين والطغاة على امتداد التاريخ.
على مدى التاريخ كره المستبدون الحسين والنموذج الذى قدمه، حاولوا طمسه وتشويهه أو تقديمه على أنه ظالم، ظلم نفسه ومن معه، أو متهور اختار الانتحار، سعى هؤلاء إلى إجهاض كل محاولة للتغيير.
فى كتابه «أبو الشهداء الحسين بن على» تساءل الكاتب الكبير عباس محمود العقاد: «نتفاءل أو لا نتفاءل.. نتشاءم أو لا نتشاءم؟.. ليست هذه هى المسألة؛ وإنما المسألة هى أن طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا تتحقق مصلحة الإنسانية إلا إذا عمل لها كل فرد من أفرادها، وهانت الشهادة من أجلها على خُدَامها، وتقدِم الصفوف من يُقدِم على الاستشهاد، ومن ورائه من يؤمن بالشهادة والشهداء».
ويشير العقاد إلى أن تلك ليست عظة ولا نصيحة، لكنها حقيقة تُقرر كما تُقرر الحقائق الرياضية، «فلا بقاء للإنسانية بغير العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينسَ الفرد مصلحته؛ بل حياته فى سبيلها، فلا بقاء للإنسانية بغير الاستشهاد».
ويرى العقاد أن «الطبائع الآدمية قد أُشْرِبَتْ حب الشهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة»، ويستثنى من تلك الطبيعة بعض المنحرفين المضللين أصحاب المنفعة والهوى القريب، كذلك يمقت الشهداء، بحسب العقاد «من لديه نكسة فى الطبع تغريه بالضغن على كل خلق سَوِىٍّ وسجية سمحة محببة إلى الناس عامة، أو من الإفراط فى حب الدعة حتى يجفل المرء من الشهادة استهوالا لتكاليفها واستعظاما للقدوة بها، فيتهم الشهداء بالهوج، ويتعقب أعمالهم بالنقد؛ لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة، ويستحق المَذَمَّةَ واللوم فى رأى ضميره».