بقلم: محمد سعد عبدالحفيظ
رغبة فى الهروب من بحث الأسباب الحقيقية التى دعت لجنة نوبل إلى منح جائزتها للسلام عن هذا العام لرئيس الوزراء الإثيوبى أبى أحمد، سارع البعض كالعادة إلى الحديث عن مؤامرة كونية على مصر، ولأن هؤلاء لا يريدون النظر إلى ما تحقق فى إثيوبيا خلال الـ18 شهرا الماضية، ذهبوا إلى أن اللجنة النرويجية كافأت «أبى» لتعمده الإضرار بحقوق مصر المائية، أو لتقربه من إسرائيل وزيارته لحائط المبكى.
اللجنة ذكرت فى بيان مطول حيثيات منح رئيس الوزراء الإثيوبى جائزة نوبل، وذكرت عددا من الأسباب الخارجية على رأسها وضع مبادئ اتفاقية سلام مع جارته اللدود إريتريا، ومشاركته فى عمليات السلام والمصالحة فى دول شرق وشمال شرق إفريقيا أهمها إعادة المجلس العسكرى والمعارضة السودانية إلى مائدة المفاوضات .
أما محليا ووفقا للأسباب التى ذكرتها لجنة نوبل، فقد شرع «أبى» فى عدد من الإصلاحات المهمة التى منحت الكثير من المواطنين الأمل فى حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقا، وهذا السبب هو مربط الفرس، بدلا من النظر إلى الطريق الذى جعل العالم يتعاطف مع هذا السياسى الشاب، وهو ما سيصعب موقفنا معه فى جولات المفاوضات المقبلة.
قبل عام وفى ميدان «ميسكل» الشهير بوسط العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تجمع ملايين الإثيوبيين فى انتظار رئيس وزرائهم الجديد. صعد «أبى» الذى ينتمى إلى قومية الأورمو إلى خشبة مسرح زجاجى تحيطه هتافات ولافتات تصفه بـ«النبى» أو «المخلص» بحسب ما نقل توم جاردنر الصحفى البريطانى الذى يعيش فى إثيوبيا.
«هناك حماسة دينية تقريبا وصلت إلى حد الهوس برئيس الوزراء الجديد.. الناس يتحدثون بصراحة عن رؤية ابن الله أو نبى، والبعض يتحفظ قليلا فيسميه نبى الديمقراطية»، يقول جاردنر فى تقرير نشره فى «الجارديان» حينها.
لم تكن كلمات «أبى» وخطبه هى سر الشعبية الجارفة التى دفعت عددا كبيرا من الإثيوبيين إلى وضع صوره على سياراتهم ومنازلهم وعلى حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعى، فالخطوات التى سارع فى اتخاذها فى وقت قصير كانت كافية ليلمس الجميع أن أوان التغيير قد بدأ، لينهى سنوات طويلة من الصراعات العرقية واستبداد الأقلية، وهو ما عرضه إلى أكثر من محاولة اغتيال، منها ما تعرض له على خشبة مسرح «ميسكل» خلال المؤتمر السابق الإشارة إليه.
بدأ «أبى» حكمه بالإفراج عن نشطاء المعارضة المحبوسين، وتواصل مع رموزها فى المنفى، وكلف بعضهم بحقائب وزارية ومناصب هامة فى الدولة، وأنهى حالة الطوارئ، كما قام برفع الحظر المفروض على المواقع الصحفية، وسمح لوسائل الإعلام بالعمل دون رقابة أو وصاية.
وقبل أن ينتهى الجدل حول تلك الإجراءات، أقال «أبى» خمسة من أبرز مسئولى السجون وأحالهم للتحقيق بعد تورطهم فى قضايا تعذيب، كما أوقف عمل عدد من الشركات المملوكة للجيش فى مشروعات كبرى على رأسها سد النهضة.
لم يصل «آبى» لطريق الإصلاح والتغيير من فراغ، فالسياسى الشاب قطع مسيرة شاقة وصعبة، واكتسب خبرات أثقلته حتى صارت تجربته ليست فقط حديث إفريقيا، بل العالم كله، فهو العسكرى الذى انضم إلى ميليشيا مسلحة ضد نظام منجستو هيلي ماريام، وهو أيضا المهندس العقيد الذى تولى منصب نائب مدير وكالة أمن المعلومات الإثيوبية «إنسا».
درس العلوم السياسية وحصل على درجتى الماجستير والدكتوراه فى العلوم السياسية وإدارة التغيير وحل النزاعات، وانتخب نائبا بالبرلمان الإثيوبى لدورتين، واختاره رئيس الوزراء السابق ديسالين وزيرا فى حكومته، وفى 2016 تولى منصب نائب رئيس إقليم أوروميا.
فى تلك الفترة كانت إثيوبيا تمر بموجة احتجاجات غير مسبوقة، بدأت بنزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية أورومو وحكومة ديسالين حول ملكية بعض الأراضى، ثم سرعان ما اتسعت رقعة المظاهرات لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدت إلى مقتل المئات واعتقال الآلاف.
على وقع هذه الاحتجاجات اتفقت قوى ائتلاف «الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية» الحاكم على الإطاحة بـديسالين من رئاسة الائتلاف، وبالتالى من رئاسة الوزراء، وتعيين «أبى» بدلا منه، ونصب فى إبريل 2018 رئيسا للائتلاف والحكومة.
جمع أبى أحمد خبرات العسكرى والأكاديمى، رجل الدولة والثائر، فخبر كيف يتعامل مع خصومه قبل شركائه، احتوى المعارضة المسلحة وفتح لها باب المشاركة فى الحكم، وأطلق الحريات العامة ،ورسم طريق بناء نظام ديمقراطى تعددى، فجعل من إثيوبيا نموذجا يتحدث عنه العالم، وأصبح هو أيقونة يحتفى بها البعض ويكرهها البعض الآخر.