بقلم - عمرو الزنط
العنوان مستوحى من مقولة استخدمها معارضو التسوية السلمية مع إسرائيل، للإيحاء بأن تواجدها، سواء داخل أو خارج حدود 1967، مرفوض، ويشكل تهديدا وجوديا للعرب. لكن يمكن إيجاد عدة معان أخرى لنفس المقولة فى سياق الصراع الدائر منذ عقود- والذى ربما وصل لذروته الآن- مع تيارات الأصولية الإسلامية.
فى الكثير من الأحيان تم التركيز فى هذا السياق على مسائل شرعية، مثل العزم على التطبيق الصارم لـ«الحدود»، كنوع من الاختبار لنوايا تيارات الإسلام السياسى. لكن الحقيقة أن الصراع بين الأصولية الدينية والتعددية الفكرية يدور حول «الوجود»؛ حول إمكانية وجود أفكار وثقافات ومعتقدات «مخالفة» فى ظل حكم الإسلام السياسى. وحول وجود البشر الذين يتبنون مثل هذه الأفكار.
وإن كانت الأزمة فى الأساس هى الحدود، فهى ليست الحدود الشرعية إنما، على مستوى أعمق، الحدود الفكرية التى يحاصر من خلالها الأصوليون عقول البشر؛ فهذه هى التى تؤدى إلى العجز والإفلاس المعرفى على المدى الطويل، نتيجة كبت الفكر والإبداع، حتى إذا كان تطبيق الحدود الشرعية له أثر يسهل ملاحظته على المدى القصير (انظر أفغانستان).
لا أتحدث هنا فقط عن الأثر الكارثى فى مجالات كالفن والأدب، فحتى الإبداع العلمى يتأثر. مثلا، يتخيل الكثيرون فى المجتمعات التى يسودها الفكر الأصولى أنه يمكن الفصل بين الأسئلة الأعمق فى العلوم الأساسية، والتصور العلمى للعالم، وبين استيعاب تطورات التكنولوجيا على أعلى مستوى. هكذا شرح مثلا سيد قطب فى كتابه الأشهر بين المتطرفين (معالم فى الطريق).
لكن هذه رؤية قاصرة، تريد فصل الإنتاج التطبيقى عن اللغة التى نتج عنها. ترى هل يمكن كتابة النصوص «العملية»، كدفتر إرشاد جهاز منزلى مثلا، دون أى معرفة بأبجديات اللغة وقواعدها؟، وتعلم اللغة العلمية يعنى الانغماس فى منهج يسوده التساؤل والنقض والتشكك على كل مستوى وفى كل شىء وكل طرح: أى لا يقبل فرض الحدود الفكرية.
والإفلاس الفكرى الناتج عن فرضها يأتى مصاحبا بإفلاس أخلاقى. ومن أعراضه المفارقة التى نجدها واضحة كل الوضوح (لمن يريد أن يرى) فى بلد مثل مصر، انتشار الانتهازية والمادية الشديدة فى مجتمع يبدو ظاهريا، من حيث كثرة مظاهر التدين، مكونا من الصالحين الروحانيين الزاهدين. وذلك فى نفس الوقت الذى تجد فيه مجتمعات علمانية تسود فيها الثقة النسبية والاحترام المتبادل بين البشر رغم «ماديتها». من أين تأتى تلك الأخلاقيات فى غياب الروحانية المفترض أنها منتشرة فى مصر؟.
تأتى من المنهج العلمى نفسه، الذى يسطر ضمنيا على الثقافة العامة ونظام التعليم.. لقد اعتقد قطب، كغيره كثيرين، أن المنهج «المادى»، البانى للعلم الحديث، مؤسس بالضرورة على مبادئ لا أخلاقية مناوئة لتراثنا الروحانى (ولذلك لا يجب استخدامه خارج التطبيقات العملية المباشرة). لكن المنهج المادى المكروه هذا له أسسه الأخلاقية المهمة، والتى نفتقدها عند نبذ أساسياته المعرفية: كتقدير قيمة البحث عن الحقيقة وقبولها، حتى إن كانت مزعجة لأنها تتناقض مع اتجاهاتنا ومعتقداتنا وانطباعاتنا المسبقة؛ والتسليم بأن كل شىء وكل شخص قابل للنقد، مهما كانت الهيبة والمكانة؛ وقبل كل ذلك قبول مبدأ حرية طرح الأفكار، وصيانة استقلالية وكرامة كل عقل إنسانى يقوم بالطرح أو النقد.
هذا هو التصور الأخلاقى المؤسس لعملية البحث فى أساسيات المعرفة العلمية، والذى مع تسربه للمجال السياسى كان تاريخيا فى أساس بناء مجتمعات تعددية، تتنافس فيها الأفكار والتيارات العقلانية دون إقصاء أو لجوء للعنف للفصل بينها. وهو منهج يبدو أفضل بكثير من التسلق الاجتماعى والتسلط السياسى باسم المطلق، الذى يبدو أكثر «مادية»، أو على الأقل انتهازية. وهو منهج لا يتناقض مع الإيمان إلا عند من أدمن فرض محاذير على الفكر، ليحصره داخل حدود تسمح بالسيطرة على عقول البشر، ثم على حياتهم.
الصراع هو صراع وجود لأنه يدور مع من يريد بسط قراءة معتمدة لمعنى الوجود ذاته، ويرمى إلى محو وجود أى طرح مغاير. وصراع حدود، لأن الحدود التى يريد فرضها تعتبر من النوع الذى يزيل أى أمل فى تواجد التعددية الفكرية، التى بدونها لا إمكانية أو معنى للتعددية السياسية.