بقلم - عمرو الزنط
أولى صور تلسكوب ناسا الفضائى الجديد الملقب بجيمس ويب بدأت فى الظهور. الصور مازالت تجريبية، هدفها ضبط المرآة والأجهزة البصرية والإلكترونية المرتبطة بالمنظار العملاق، لكنها فاقت كل التوقعات.. هكذا يمكن توقع اكتشافات مبهرة مع بداية التشغيل الرسمى فى منتصف الصيف المقبل.
ماذا يمكن توقعه؟.. هناك أشياء كثيرة سيبحث عنها «ويب»، منها كواكب مشابهة للأرض حول نجوم غير الشمس، فى محاولة لمعرفة إمكانية استضافتها للحياة، كخطوة فى مشوار فك اللغز الأكبر المتعلق بإمكانية وجود حياة غيرنا فى كون شاسع به عدد مجرات يفوق تعداد البشر.. ليس الحالى فحسب، وإنما تعداد كل البنى آدمين الذين خطوا فوق الأرض منذ تطور الإنسان الحديث من مئات آلاف السنين.. وكل مجرة بها على الأقل مئات الملايين من النجوم، والأكبر منها يضم مئات المليارات. وكل نجم منهم مثل الشمس، ومعظمها يستضيف مجموعات من الكواكب كالمجموعة الشمسية.. ما الحكمة فى كل ذلك إن كنا وحدنا أم لا؟
أما الهدف الأساسى من المنظار العملاق، أو الأهم على الأقل بالنسبة لى كباحث فى المجال، فسيكون البحث عن أصل تلك المجرات فى بدايات الكون.. نحن نعرف أن الكون يتمدد، وأنه بدأ فى التمدد منذ ما يقرب من 14 مليار سنة.
نعرف ذلك جزئيًا، أننا نرصد بقايا المرحلة التى كانت مكونات الكون فيها مضغوطة على كثافات هائلة، ومن ثم على درجات حرارة مهولة؛ فبقايا الأشعة من تلك المرحلة مرصودة منذ حين، بل قد منحت جائزة نوبل عام 1978 لمكتشفيها: لقد رصدوها على درجات حرارة منخفضة، كـ«أشعة ظل» فى الكون الحالى، لأنها تمددت مع تمدد الكون.. مثل غاز الولاعة عندما يخرج من الأنبوبة، أو الفريون فى التكييف أو الثلاجة، إذا انخفضت درجة حرارتها.
الكون الأول، نظرًا «لانضغاطه»، كان شبه متجانس؛ أى أن كمية المادة والطاقة فيه لم تكن تختلف كثيرا من مكان لآخر.. السؤال إذن: كيف نشأت الأشياء التى نعرفها، مثل المجرات والنجوم والكواكب، من تلك «الشوربة الأولية»؟.. جائزة نوبل أخرى فى الفيزياء (عام 2006) مُنحت لمن أداروا مشروع القمر الصناعى الملقب (كوبى)، الذى رصد تذبذبات طفيفة فى «أشعة الظل» المتبقية من مرحلة بدايات الكون، والتى منها نشأت الأشياء المذكورة.
وجائزة نوبل مُنحت أيضا (2019) لجيمس بيبلز، أحد الرواد من منظرى علم الكونيات ممن حسبوا نمو التقلبات الصغيرة فى الكثافة والطاقة مع التطور الكونى، لإثبات إمكانية أن تنشا منها المجرات التى نرصدها.. وحاول مكافحًا منذ نصف قرن مقارنة تكهناته بالأرصاد الفلكية المتاحة آنذاك.
أما الآن، بل منذ حوالى عشرين عامًا بالفعل، فعلم الكونيات يمر بطفرة هائلة سميت «عصر الدقة»، حيث تحرك البحث فيه من هامش التكهنات الرياضية فى ظل صعوبة الأرصاد الفلكية، إلى علم تجريبى (أرصادى) ثرى، يشكل فيه تليسكوب جيمس ويب واحدًا فقط من عشرات مشاريع المراصد الفضائية والأرضية العملاقة، القائمة أو المزمعة، حتى إذا كان «ويب» أكثرها طموحًا.
هذه المراصد تغطى الطيف الكهرومغناطيسى بأكمله، من الراديو إلى أشعة جاما، مرورا بالضوء المرئى.. ومن بين أهم مميزات «ويب»، التى تجعله مناسبا لرصد أولى المجرات فى الكون، أنه يعمل فى مجال الأشعة تحت الحمراء، ولذلك سيرصد ضوء المجرات الأولية المرئى الذى تمدد مع الكون فصار طول موجاته أطول من موجات الضوء الأحمر (أطول موجات تراها العين).. ولذلك كان على التليسكوب أن يطلق بعيدا فى الفضاء، فى مدار وحده حول الشمس، على درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق.
ماذا سنفعل بعد رصد عدد معتبر من المجرات الأولية؟ أولًا: بكل بساطة، سنعد أرقامها ونقارنها بما هو متوقع من حساباتنا المبنية على أساس التذبذبات المرصودة فى أشعة الظل (نوبل 2006 و2019) لمحاولة إتمام وتأكيد تصوراتنا عن تطور الكون ومكوناته (أو قلبها على عقب!).. لكن ماذا عن «أهمية» عملية عد النجوم والمجرات هذه بالنسبة للإنسانية وموكبها الحضارى؟.
سأكتفى هنا بأن أدعو القارئ للتأمل (أو البحث) فى أهمية ثورات كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو ونيوتن الفلكية بالنسبة لبناء العالم الحديث وتطوره معرفيا، ثم فكريا وتقنيا واقتصاديا، وأخيرا اجتماعيًا.