بقلم - عمرو الزنط
لا أتذكر التاريخ بالتحديد، لكنه كان فى بداية 2013. أما المناسبة التى جعلت من الميدان شبه خرابة، تُخيِّم عليه مناظر تبدو مستوحاة من آخر الزمان، فلا أتذكرها كذلك، لكنها كانت بالقطع مرتبطة بإحدى حلقات صراعات الشارع التى تخللت المرحلة.. أكثر من سيارة مُدمَّرة ومحترقة، يلعب فوقها الأطفال؛ عدة عربات شاى مصنوع من مياه قذرة، فى أكواب مغسولة فى مياه أقذر؛ وعلى حافة «صينية» ميدان التحرير الرئيسية يجلس عدد من البائسين، بعضهم لديه لحية عشوائية شقراء تغطى وجهًا فيه عينان تائهتان.
تبين بعد الحديث معهم أنهم من الشيشان، وأنهم أتوا لمناصرة زملائهم فى التيار الإسلامى.
تحدثوا بتحفظ وتحفز جعل من عدم جدوى سؤالهم عن طبيعة «المناصرة» بديهيًّا.
لذا لا أعرف ما إذا كانت مجرد مساندة معنوية أم أكثر من ذلك، لكن المنظر العام أصابنى بحالة من الوجوم الحاد، الذى جعلنى أحتفظ بصورة من المشهد فى ذهنى عبر السنين، مصاحَبة بتساؤلات عن طبيعة عالم هؤلاء.
ظاهرة المقاتل الفرد العابر للحدود باحثًا عن معنى، الظاهرة التى تحدثت عنها فى سياق الحرب الأوكرانية فى المقال السابق، منتشرة داخل التيار الإسلامى كذلك، فإذا كان وجودها ملحوظًا فى العالم العلمانى المعاصر منذ حروب الثورة البلشفية والحرب الأهلية الإسبانية، فانتشارها بين الإسلاميين معروف على الأقل منذ حرب أفغانستان، حين واجه الجهاديون النظام الشيوعى فى شيخوخته.
وإذا كان الصراع يعطى للحياة الفارغة معنى، فما أقوى المعنى الذى ينبع عن الانغماس فى «دراما كونية»، يستبدل خلالها الفرد المصاب بالاغتراب حياته فاقدة البوصلة بملحمة القتال فى سبيل تحقيق مقاصد الله فى الخليقة وبناء جنته على الأرض (حسب تعبير سيد قطب). هذا الفهم «الخلاصى اليوتوبى» لمسار العالم، وكيفما يؤول إلى المثالية، يُشكل بالفعل شيئًا مشتركًا بين الجهادية والمنهج الشيوعى، الذى حرّك مقاتلى إسبانيا وروسيا. مع استبدال فهم «مقاصد الخليقة»، المستوحاة من قراءة خاصة للنص، بفهم «علمى» لحركة التاريخ تجاه المثالية والخلاص.
لكن إذا كانت تجارب القتال فى إسبانيا وروسيا البلشفية قد أتاحت الفرصة لكُتاب وأدباء موهوبين ليعبروا عن أفكارهم بتعمق، وسمحت لبعضهم (مثل جورج أورويل وأرثر كوستلر) بنقد الذات وكشف حقيقة أوهام «الخلاص»، فحروب اليوم ينتج عنها عادة فقط «إدمان» أجيال من المتطوعين للمعنى الذى يمنحه مناخ القتال ذاته، الذى يلغى مُكبِّلات المعايير الاجتماعية السائدة فى عالم السلم. وإن كانت بداية المشوار مبنية على مبادئ ومفاهيم حالمة بالحرية أو بإقامة مملكة الله.
بعض متطوعى حرب أوكرانيا ينظر إليها كدرجة فى سلم اكتساب خبرة تؤمِّن له «كارير» كمرتزق، تُمكِّنه من الهروب المستمر من مصير العودة إلى لعب دور الترس التافه فى الأطراف المنسية من العالم الصناعى. ترى هل توقف طموح أكثر من 40000 مجاهد أجنبى فى سوريا عند حد مشابه؟. هل صار حلم مملكة الله بالنسبة لبعضهم مجرد ذريعة سطحية تغطى إدمان «كارير الجهاد»، بما يتضمنه من عنف مبهر ودفء حضن الانصهار فى زمالة الجماعة القتالية، بعد أن تاه الهدف الأصلى فى بحر من الدم والنسيان؟.
لنكن أكثر دقة. إذا كانت شركات مثل «بلاك ووتر» توفر «فرص عمل» للمرتزقة العلمانيين المدمنين للحرب، فهل يمكن اعتبار منظمات كالقاعدة والدولة الإسلامية كشركات معولمة، متعددة الجنسيات، بفروع فى شتى الأقطار، توفر الفرص لمدمنى الجهاد جيلًا بعد جيل؟
وإذا كان عمل «بلاك ووتر» يمثل قمة (أو قاع) عملية «تسليع الإنسان» فى سياق نظام السوق، فماذا يمكن القول عن إغراء النفوس البائسة بأهداف روحانية حتى ينتهى أصحابها كمدمنين للعنف العدمى ومناخ الاستباحة، الذى يسمح بخرق أبسط الأعراف الأخلاقية المنظمة للحضارة باسم تطبيق «شرع الله»؟.
هكذا يبدأ بعضهم الـ«كارير» بأحلام إقامة مملكة الله على الدولة الإسلامية فى العراق والشام، ثم يتأزم- كما يذكر تشارلز ليستر، مؤلف كتاب «الجهاد السورى»- بتدنى روحه المعنوية مع انخفاض الراتب الشهرى الذى تمنحه «الدولة» لمقاتليها، نتيجة خسائرها المتوالية.. ليبدأ البحث فى سوق العمل عن فرص فى مؤسسات بديلة (القاعدة مثلًا)، بهدف استكمال كارير الهروب فى سبيل الله.