يحتفل الاتحاد الدولى للفلك بمرور مائة عام على تأسيسه. هل هذا شىء يعنينا فى مصر؟ يعنينا، لأن مصر عضو فيه، بل من بين خمس دول إفريقية وبضع دول عربية فقط نالت شرف العضوية. وهو شرف، لأن فى التمثيل الدولى لدى الاتحاد جمعيات علمية عظيمة وعريقة. مثل الجمعية الملكية للفلك، والأكاديميات القومية الأمريكية، والأكاديمية القومية الفرنسية للعلوم، والأكاديمية الروسية للعلوم، وغيرها من الهيئات العلمية التى كان لها دور تاريخى كبير فى التقدم الإنسانى.
تمثل مصر أكاديمية البحث العلمى من خلال اللجنة الوطنية للعلوم الفلكية. التى أتشرف بعضويتها، والتى تنظم ندوات بمناسبة العيد المئوى للاتحاد الدولى تتضمن محاضرات مفتوحة للجميع، كان أولها يوم الأربعاء الماضى. وأسعدنى فى هذا السياق وجود جمهور من المهتمين، بينهم عدد من طلاب المدارس.
فتاريخنا الطويل فى عضوية الاتحاد يشهد برغبة مصر الحديثة فى المشاركة المعرفية والحضارية، ما يعكس تطلعات طموحة، سادت أوساطنا الفكرية والسياسية حتى وقت ليس بالبعيد.. وفى وقتنا الحالى تساعد المشاركة المصرية على فك العزلة الخانقة التى يعانى منها مجالنا العلمى منذ أكثر من نصف قرن؛ فالاتحاد يهدف دعم التواصل بين العلماء وتبادل المعرفة، فى إطار منفتح لا تجده عادة فى المجالات العلمية التطبيقية، التكنولوجية والعسكرية.
فى نفس الوقت فإن علم الفلك على عكس «الأبراج»، مثلا، رغم أنه يتعلق بأشياء تبدو بعيدة عن حياتنا اليومية مثل طبيعة وحركة الكواكب والنجوم والمجرات وتطور الكون- فهو فى أساس الثورة العلمية، التى ولد من رحمها العالم الحديث.. بكل تداعياتها المعرفية والفكرية التى غيرت من نظرة الإنسان للعالم، ونتائجها التكنولوجية التى أحدثت انقلابات فى أنماط حياته.
وقبل الثورة العلمية، التى دفعها علم الفلك، لم يكن هناك فرق فكرى أو تقنى أو اقتصادى كبير بين أوروبا وبقية العالم. أما خلال القرون التى تلت الثورة فصارت الفروق واضحة وفارقة، وصعد الغرب ليسيطر عالميا.
العلم بالطبع فى أساس ذلك التحول التاريخى، لكن كيف دفع علم الفلك بالذات التطور الإنسانى بهذه الطريقة الفارقة؟
علم الفلك، حتى القرن السادس عشر، كان يتعلق أساسا بدراسة حركة الكواكب (مثل المريخ، المشترى، الزهرة) فى السماء. وكان النموذج المتبع لشرح تلك الحركة يفترض أن الأرض فى مركز الكون وأن الكواكب تدور حولها فى سبع سماوات مجسدة بقشور كروية. ثم جاء «كوبرنيكوس» وألغى القشور واقترح أن الشمس هى التى فى مركز المجموعة الشمسية وليس الأرض.
كان لنقل الإنسان من مركز الكون تداعيات فكرية عميقة. وكذلك كان لاكتشاف جاليليو أن هناك أقمارا تدور حول كوكب المشترى، وأن الأرض ليست مختارة فى استضافة قمر.. وأيضا لاكتشاف «كيبلر» قوانين جديدة لحركة الكواكب، مهدت لقفزة نيوتن الكبرى، مع إثباته إمكانية فهم حركة الكواكب تماما بنفس الطريقة التى يمكن فهم بها حركة الأجسام على الأرض من أول ثمر التفاح الساقط من الشجر وحتى حركة القذائف والصواريخ.. هكذا تم استبدال السماوات السبع وقشورها الكروية بفكرة أن الكون له جانب عقلانى يتماثل مع عقل الإنسان، الذى يمكن من هنا أن يستوعبه.
إمكانية فهم العالم بهذه الطريقة كانت لها تداعيات فكرية عميقة وواسعة النطاق، انصبت حتى على المجال السياسى.. سردها مفكرون مثل فولتير وكانط، تأثروا كثيرا باكتشافات نيوتن، وتلخصت فى وجوب صيانة واحترام استقلالية وكرامة الفرد المتوج بعقلانية قادرة على فك أسرار الكون، وأيضا على الاختيار الحر الذى صار من حقه.. ومع هذه المفاهيم ظهرت فكرة حقوق الإنسان، وتشكل نوع جديد من الإنسان الغربى؛ واثق فى قدراته، ومعتز بآدميته وبمقدرته على الابتكار والتحرك والانطلاق بعيدا عن السلطة التقليدية الخانقة.
من الناحية العملية أدت الاكتشافات العلمية إلى القفزات المتتالية فى التطبيق الاقتصادى والعسكرى؛ قوانين نيوتن مثلا، التى كان هدفها الأول فهم حركة الكواكب، تم استخدامها فى حساب حركة قذائف المدفعية بدقة.. وظل علم الفلك دافعا، فى آن واحد، لطفرات فكرية وفلسفية، تتعلق بمكان الإنسان فى الكون وكيفية تنظيم مجتمعاته، وأخرى تكنولوجية تتعلق بنمط حياته الاقتصادى، وسأحاول سرد بعض هذه الجوانب فى مقالات قادمة.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع