بقلم - عمرو الزنط
فى صيف 1977، منذ 45 عامًا، أطلقت وكالة ناسا مركبتى فضاء «فوياجر»، أى المسافر. أولًا المسافر 2 فى أغسطس، ثم المسافر 1 فى بداية سبتمبر من ذلك العام. كانت هذه أولى المركبات التى تصور كواكب المجموعة الشمسية الخارجية بدقة، عندما مرت بالقرب من المشترى وزحل ومجاميع أقمارها.
الصور المبهرة، التى أرسلتها مركبات المسافرات فى نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، تزامنت فى مصر مع أوضاع متقلبة؛ زيارة السادات للقدس، اشتداد بدايات الصحوة الدينية، اغتيال السادات.. لكنى كنت فى ذلك الوقت طفلًا مصاحبًا لوالدى الدبلوماسى بسفارتنا بالعاصمة الأمريكية واشنطن. صور السادات وبيجن وكارتر تصدرت الأخبار هناك أيضًا بالطبع.
وكذلك مظاهر الصحوة، خاصة مع صعود الخومينى وخطف رهائن السفارة الأمريكية فى طهران، لكن صور «فوياجر»، التى تصدرت الأخبار كذلك، هى التى شدّت انتباه وفضول هذا الطفل المقبل على المراهقة، خاصة أنها تزامنت تقريبًا مع برنامج «كوزموس»، لعالِم ومعمم العلم الفذ، كارل ساجان، الذى شرح المعنى الأعمق للصور الجذابة ووضعها فى إطارها الحضارى الأعَمّ.
حتى قبل «فوياجر»، كان من المعلوم أن كوكب المشترى تدور حوله أقمار؛ بل كان اكتشاف جاليليو لهذه الأجسام السماوية، التى تدور بوضوح حول كواكب غير الأرض، من أسباب صدامه الشهير مع السلطات الدينية.. أما مركبات فوياجر فقد فتحت عالمًا جديدًا بالكشف عن عشرات الأقمار التى تدور حول كواكب المجموعة الشمسية الخارجية، بالمقارنة بقمر واحد فقط يدور حول كوكب الأرض.. من بين تلك الأقمار ما يستضيف براكين متفجرة، وما فيه محيطات من غاز الميثان المثلج، أو غلاف جوى معتم، ربما قابل لاستضافة أنماط الحياة. ورصدت بدقة فائقة بؤرة كوكب المشترى الحمراء الكبرى؛ عبارة عن عاصفة عملاقة، أكبر من كوكب الأرض بأكمله، قائمة منذ مئات السنين على الأقل. ورصدت الحلقات التى تحيط بكوكب زحل، والتى كان قد اكتشفها كذلك جاليليو من خلال المنظار الذى صممه فى أول القرن السابع عشر، والذى كشف عن كون تسوده قوانين حركة موحدة تحكم كل أجسامه، مما مهد لاكتشافات نيوتن، ومن ثَمَّ الثورة العلمية وبداية العالم الحديث، مع نهاية نفس القرن. بعد زيارة المشترى وزحل، بدأت «المسافر 1» الخروج من المجموعة الشمسية، سالكة مسارًا عموديًّا على المستوى الذى يجمع كواكبها. أما مركبة فوياجر 2 فأكملت رحلتها الشمسية بزيارة كوكب أورانوس (فى 1986) ونبتون (1989)، وهما الكوكبان اللذان- بالمناسبة- ليس لهما لقبان عربيان نظرًا لاكتشافهما بعد اندلاع الثورة العلمية وانفصال العالم العربى عن ركب الحضارة الحديثة.
المركبتان تكملان الآن رحلتهما خارج المجموعة الشمسية، على مسافة 16 و22 ساعة ضوئية من الأرض، أى أن الإشارات المنبعثة منهما تأخذ ما يقرب من يوم كامل للوصول إلينا. القمر بالمقارنة يبعد عنّا حوالى ثانية ضوئية فقط، مع ذلك هذه ليست مسافات كبيرة بالمعايير الفلكية، التى تقدر المسافات الكبرى فيها بملايين ومليارات السنوات الضوئية، لكنها تشكل خطوة أولية فى طريق استكشاف الإنسانية لمأواها الكونى الأكبر.
بدأت «ناسا» مؤخرًا فى تخفيض عمل أجهزة المركبتين، فى محاولة لحفظ ما تبقى من طاقة فيهما لبضع سنوات إضافية، وذلك بعد تشغيل استمر ما يقرب من نصف القرن ودام أكثر من عمرهما الافتراضى بعشر مرات. لكن حتى بعد انطفاء أجهزتهما بالكامل، ستسبح المسافرتان 1 و2 فى الفراغ السائد ما بين النجوم، ربما لمليارات السنين، بعد ترك المجال الجاذبى للشمس بالكامل.. وربما بعد أن تفنى الإنسانية وتنطفئ الشمس نفسها، فى أعقاب نفاد وقودها من الهيدروجين.
وفى رحلتهما الملحمية تلك، ستحملان أسطوانات تسجل رسالة من الإنسانية إلى الكون، لعل وعسى هناك مَن يهمه الأمر: كلمة من أمين عام الأمم المتحدة عام 1977؛ تحيات بمختلف اللغات السائدة على الأرض، بما فى ذلك العربية؛ آية قرآنية؛ موسيقى لبيتهوفن وباخ ولقبائل إفريقية؛ أصواتًا وصورًا تعكس طبيعة وأنماط الحياة على الأرض، فى محاولة لشرحها.. والتعبير عن رغبة دفينة لدى الإنسان فى فك شفرة وجوده فى كون شاسع، فيه عدد من المجرات أكبر بمراحل من تعداد كل البنى آدمين.