بقلم - عمرو الزنط
بعد أقل من أسبوعين من بداية تشغيل تليسكوب جيمس ويب ونَشْر الصور الأولى، ظهرت أولى الأوراق العلمية المستخدمة لنتائج هذا المرصد. هذه الأوراق ليست مُحكّمة بعد بالطبع، لأن عملية التحكيم تأخذ على الأقل بضعة أسابيع، وفى معظم الأوقات عدة شهور أو أكثر، بل هى أوراق أولية (تسمى «بريبينت») توضع على مواقع أرشيفية على الإنترنت معروفة لدى المجتمع العلمى العالمى.
تحكيم الأوراق فى الظروف التى تظهر فيها مثل هذه الأبحاث ليست له أهمية كبيرة، لعدة أسباب، من بينها أن كُتاب الأبحاث والقراء على هذا المستوى يعرفون بعضهم شخصيًا فى كثير من الأحيان، ولديهم فى معظم الأحوال احترام متبادل كبير؛ ومثل هذه الأوراق تخضع لتحكيم داخلى صارم، من خلال مناقشات حادة بين الطاقم البحثى ذاته (ومن خلال تحكيم داخلى رسمى فى حالة الفرق البحثية الكبيرة)، لأن الفريق عادة ما يضم أسماء مرموقة تريد الإبقاء على سمعتها، ومعها باحثون معاونون يريدون تكوين أسامى مماثلة لأنفسهم.. ثم إنه فى مثل هذه المواضيع يكون التحكيم والتقييم علنيا؛ فى نقاشات وندوات ومؤتمرات، وأبحاث متلاحقة تدعم أو تنفى النتائج وتضيف إليها أو تسد الفجوات.
فى هذا السياق، يتضح أن عملية التحكيم والنشر التقليدى فى دوريات علمية تكون أهم بكثير فى ظروف يصعب فيها تقييم الإنتاج العلمى نتيجة غياب مجتمع علمى ذى حيوية وثقل ومعايير معتبرة.. وهذا هو الحال فى مجالات كثيرة فى مصر.
مثلًا معظم الأبحاث المبنية على نتائج جيمس ويب، التى ظهرت خلال الأسبوع الماضى، تتعلق بنشأة أول مجرات فى الكون، هذا مجال علمى شبه منعدم فى مصر، خاصة من الناحية النظرية. وكذلك بالنسبة للإطار العلمى العام المؤسس له.
مثلا نعرف أن الكون كان فى مراحل أولية فى صورة حساء شبه متجانس، لأننا نرصد الأشعة المتبقية من تلك المرحلة المسماة بـ«أشعة الظل الكونية»، هذه الأشعة تم اكتشافها منذ أكثر من نصف قرن (1964)، وحصل مكتشفوها على جائزة نوبل عام 1978.. ثم تم اكتشاف تذبذبات طفيفة فيها منذ ثلاثين عاما بالضبط (صيف 1992) وتم توزيع جوائز نوبل بهذه المناسبة سنة 2006. مع ذلك، ليس هناك أحد فى مصر متخصص فى فهم وتحليل تلك الأشعة.
ودون خلفية فى هذا الإطار العلمى العام الحاكم يصعب فهم معنى الأبحاث الأخيرة المتعلقة بنشأة المجرات الأولية، ناهيك عن المشاركة فيها، كما أرجو أنه يتضح مما يلى..
ثلاثة من الأبحاث التى ظهرت (على الأقل) تتعلق بتعداد المجرات الكبيرة (التى تحتوى على مائة مليار نجمة فيما فوق) فى أزمان قليلة نسبيا بعد بداية تمدد الكون؛ أى بعد بضع مئات ملايين من السنين فى كون عمره الآن ما يقرب من 14 مليار سنة.. هذا موضوع مهم، لأنه يمكن من خلاله امتحان نظرياتنا عن تطور الكون: فمِن رصد وتحليل وفهم الذبذبات الصغيرة فى أشعة الظل الكونية (نوبل 2006) نعرف حجم البذور التى نشأت منها التكتلات التى نبتت منها المجرات تحت تأثير الجاذبية، لذا يمكننا بناء نموذج متكامل لنشأة المجرات وتطورها مع الزمن واختبارها فى ظل أرصاد «ويب» وغيره.
الكثير من تنبؤات الحسابات الرياضية والمحاكاة الرقمية العملاقة الناتجة عن ذلك المنهج قد تم اختبارها بالفعل، والكثير منها أثبت جدارته فى مواجهة أدلة الواقع.. لكن حتى قبل إطلاق جيمس ويب كانت هناك تكهنات بأن عدد المجرات الأولية الكبرى أكبر مما تتوقعه نظريات نشأة المجرات، فى إطار النموذج القياسى لتطور الكون.. مع ذلك كانت دائما هناك شكوك بخصوص دقة الأرصاد التى تشير إلى ذلك، خاصة أنها كانت ترصد الضوء الآتى من تلك المجرات فى نطاق الأشعة فوق البنفسجية، مما يعقّد مهمة استنتاج الكتلة منها.
أما جيمس ويب، فيرصد الأشعة المنبعثة منها فى الضوء المرئى وبدقة فائقة تقلل من إمكانية اللبس.. والأوراق البحثية الثلاث المشار إليها تتضمن نتائج أولية تشير إلى أن عدد المجرات الكبرى عند أزمنة بعيدة قد يكون فعلا أكبر بكثير من توقعات نظرياتنا. وإذا تأكد ذلك فستكون له تداعيات واسعة النطاق تخص نماذج نشأة المجرات فى إطار تطور الكون.. بل ربما تلمس جوانب من تصوراتنا للعالم الطبيعى أبعد من ذلك بكثير.
وللحديث بقية.