بقلم - عمرو الزنط
أعلنت وكالة ناسا عن يوم نشر أُولى صور تليسكوب جيمس ويب، والذى سيوافق 12 يوليو القادم.
من الصعب التكهن بتفاصيل تلك الصور، لأن الإنسان حتى الآن لم يتمكن من رؤية بعض الأشياء التى من المرجح أن تكون فيها.. أو على أقل تقدير لم يتمكن من رؤيتها بالوضوح المتوقع. لكن ماذا نعنى بالضبط بـ «بعض الأشياء التى من المرجح أن تكون فيها»؟!.
فى أعقاب مقال الأسبوع الماضى جاءتنى بعض التعقيبات من نوعية: هل سيرصد «الويب» الانفجار العظيم؟!.. الرد المختصر هو «لا». أولًا لأنه ببساطة لم يكن هناك انفجار عظيم بالمعنى الشائع. لقد بدأ الكون من حالة كانت مكوناته مضغوطة على كثافات ودرجات حرارة عالية جدا، لكن التمدد كان فى الفضاء والزمن نفسه ولم يشبه انفجارا ينتشر فى المكان.. بل إن مصطلح الانفجار العظيم، أو «بيج بانج» كان قد أطلقه العالم فريد هويل على سبيل السخرية من الفكرة.. لأن الكون المفضل لديه كان أزلًيا فى القدم؛ كون لم يبدأ فى «لحظة انفجار».
رغم تحفظات هويل وغيره، فالأدلة أثبتت جدوى فكرة الكون المتطور زمنيا. فقد تم الكشف عن طاقة متبقية من مرحلة الكون الأولى، والتى نرصدها الآن فى صورة «أشعة ظل كونية».. تأتى إلينا من زمن يقدر بحوالى 400 ألف عام بعد بداية التمدد، فى كون عمره الآن حوالى 14 ألف مليون عام.. وتشير إلى أنه تطور مع الزمن من حالة مجال شبه متجانس، مجرد حساء أولى خالى الملامح.. وهى حالة مختلفة تماما عن الكون الحالى، الملىء بالمجرات والنجوم والكواكب.
تليسكوب جيمس ويب يرمى لرصد المرحلة الفاصلة بين الحالتين. وهى من المتوقع أن تبدأ بعد حوالى مائة مليون سنة من بداية التمدد.. أى أكثر بكثير من 400 ألف سنة، لكن أقل بكثير أيضا من 14 مليارا. ولكى يفعل ذلك يجب أن يرصد أبعادا شاسعة؛ لكى يكشف عن أشياء انبعث منها الضوء بعد مائة مليون سنة من «البداية»، ثم وصل إلينا بعد 14 مليار سنة.. آخذا حوالى 13.9 مليار عام فى المشاور!.
سيرصد «ويب» هكذا نورًا من نجوم الكون الأولى، التى أنتجت خلال حياتها وفى نهاياتها المتفجرة أول كميات من العناصر التى نعرفها من حياتنا كبشر على الأرض: من الكربون فى خلايانا والأكسجين الذى نتنفسه، إلى الذهب الذى فى بنوكنا، واليورانيوم الكامن فى أسلحتنا النووية.
فريد هويل كان من بين الذين بينوا من خلال حسابات رياضية مفصلة كيفية نشأة المواد المكونة لأجسادنا فى نجوم بعيدة عنا مكانيًا وزمنيًا. وكان كذلك ممن بينوا أن بعض المواد، مثل غاز الهيليوم، يمكن إنتاجها كذلك فى مرحلة «الحساء الكونى»، بعد دقائق فقط من بداية التمدد فى سياق سيناريو الانفجار العظيم الذى تشكك فى صحته.. وكميات تلك المواد المرصودة فعليا فى الكون تتفق مع إنتاجه فى ظل السيناريو الذى سخر منه هويل.. ومن سخرية القدر أنه ساهم فى إثبات صحتها!
كان مشرفى فى الدكتوراة الراحل روجر تايلير، الذى تعاون مع «هويل» فى كتابة الورقة العلمية التى توقعا فيها نسب «الهيليوم الكونى» الصحيحة.. يردد أن عبقرية هويل كانت كامنة فى فضوله وطموحه الفكرى الصادق، الذى حرّكه أحيانا حتى لسرد تداعيات أفكار متناقضة تماما مع معتقداته فى سبيل اختبارها.
نفس هذا المنطلق الذى حرك «هويل» سيحدد الإطار الذى سيدور فى سياقه الجدل العلمى بعد تدفق صور ونتائج جيمس ويب. وربما ستؤكد النتائج المتدفقة من «ويب» تكهناتنا السائدة عن بدايات الكون، ونشأة المجرات والنجوم فيه، مع وضع بعض النقاط فوق الحروف. وربما ستقلبها رأسا عن عقب. لكن، فى كل الأحوال، فإن قوة المنظومة الفكرية العلمية كامنة فى قبولها الإصلاح والتأقلم مع تدفق المستجدات، بل البحث باستمرار عن المستجدات التى تمدها بحيوية وحياة وحركة وتطور مستمر.
هذا هو الهدف والمعنى الأعمق لمشاريع مثل تليسكوب جيمس ويب. فمنها يظهر الفرق الأساسى بين نمط الحضارة العلمية وبين منظومات مغايرة ليست قابلة للإصلاح أو التأقلم مع المعطيات وتخشى التجديد، لأنه ينذر بانهيار هيكلها بالكامل.