لاشك أن العرب هم المسئولون عن وصول القضية الفلسطينية إلى ماوصلت إليه الآن، بعد أن تسبب ما حدث بينهم عبر سنوات طويلة من فرقة وتشرذم وإعلاء المصالح الشخصية القطرية على مقتضيات الأمن القومى العربى والاستجابة للتدخلات الأجنبية، فى أن تسعى أمريكا بقوة لفرض حل نهائى للقضية على حساب الحق الفلسطينى تحت مسمى صفقة القرن.
إن ما حدث من تصرفات أمريكية بهذا الشأن فى الفترة الأخيرة يستحق التأمل، فمستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر مصحوبا بالمبعوث جيسون جرينبلات كبير مستشارى ترامب لشئون السلام فى الشرق الأوسط قاما بزيارة للمنطقة شملت مصر والأردن والسعودية وقطر قبل اختتامها في إسرائيل، لإعادة طرح أفكار ترامب بشأن تصوره للحل النهائى للقضية الفلسطينية، وسرقت زيارتهما لمصر الأضواء لدلالات ماحدث فيها.
فعقب لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى بالمبعوثين الامريكيين، صدر بيان مقتضب للغاية من الخارجية الأمريكية أرسلته سفارة الولايات المتحدة بالقاهرة للصحفيين، يقول: قام جارد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس، وجيسون جرينبلات، الممثل الخاص للمفاوضات الدولية، بزيارة إلى جمهورية مصر العربية، والتقيا الرئيس عبدالفتاح السيسى. واستكمالاً لمناقشات سابقة، تم بحث زيادة التعاون بين الولايات المتحدة ومصر، والحاجة إلى تيسير تقديم المساعدات الإنسانية لغزة، وجهود إدارة ترامب لتسهيل السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وقد لفت هذا الاقتضاب الشديد فى البيان نظر المراقبين، خاصة مع صدور بيان تفصيلى من الرئاسة المصرية، أوضح أن الرئيس عبد الفتاح السيسى أكد دعم مصر للجهود والمبادرات الدولية الرامية للتوصل إلى تسوية عادلة وشاملة، وذلك طبقاً للمرجعيات الدولية المتفق عليها وعلى أساس حل الدولتين وفقاً لحدود 1967، تكون فيه القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، مستعرضاً فى هذا الإطار الجهود التى تبذلها مصر لإتمام عملية المصالحة الفلسطينية وتهدئة الأوضاع فى غزة، وما تقوم به من إجراءات لتخفيف المعاناة التى يتعرض لها سكان القطاع ومنها فتح معبر رفح طوال شهر رمضان، فضلاً عن الاتصالات المستمرة التى تجريها مع الأطراف المعنية من أجل الدفع قدماً بمساعى إحياء المفاوضات بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، وشدد الرئيس على أن التوصل إلى حل عادل وشامل لهذه القضية المحورية سيوفر واقعاً جديداً يساعد فى تحقيق الاستقرار والأمن لمختلف دول المنطقة.
هذا التباين بين البيانين يوضح الخلاف المصرى الأمريكى حول صفقة القرن التى مازالت مبهمة، ولم تتضح ملامح كثيرة منها بشكل رسمى، ووفقا لصحيفة هاآرتس الإسرائيلية فإن التسريبات الأخيرة عن صفقة القرن للسلام تتحدث عن دولة فلسطينية (منقوصة)، وتطالب بانسحاب إسرائيلي من أربع أو خمس قرى شرق القدس المحتلة وشمالها (شعفاط وجبل المكبر والعيساوية وأبو ديس) تكون إحداها (أبو ديس) عاصمة للدولة الفلسطينية، مع إبقاء البلدة القديمة المحتلة والمسجد الأقصى المبارك، تحت الاحتلال.
وأضافت أن إسرائيل لا تطالَب بتقديم شيء باستثناء الانسحاب من الأحياء الأربعة أو الخمسة، من دون المس بأي من المستوطنات داخل الجدار الفاصل وخارجه على السواء، أي الإبقاء حتى على المستوطنات المنتشرة في أعماق الضفة الغربية.
ولا تتضمن الخطة إخلاء إسرائيل أيا من المستوطنات التي أقامتها بعد عام 1967 في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويبقى غور الأردن المحتل تحت السيطرة الإسرائيلية، كما تقضي الخطة بأن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة الجيش والسلاح الثقيل.
وهذه الأفكار تختلف تماما عن الموقف المصرى المتمسك بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وباقى التفاصيل التى شرحها بيان الرئاسة المصرية.
ووفقا لمعلومات متعددة فإن المبعوثين الامريكيين سمعا كلاما مشابها فى معظم العواصم العربية التى قاما بزيارتها، لأن مصر استبقت التحركات الامريكية بمشاورات وتنسيق عربى أدى إلى تمسك معظم الدول العربية بالموقف العربى من حل الدولتين الذى سبق طرحه فى مبادرة السلام العربية.
وهو ما دعا صحيفة هاآرتس للتأكيد أن مصر موقفها رافض بشكل قطعى، ومعرقل لأى محاولات من شأنها سحب قضية القدس الشرقية من على طاولة المفاوضات، وأن مصر تصر على أن تكون القدس الشرقية المحتلة عاصمة للدولة الفلسطينية، موضحة أن موقف القاهرة مغاير لدول عربية أخرى توافق على مقترح مدينة أبوديس.
وقال تسفي برئيل، محلل الشئون العربية للصحيفة: مصر لا تقبل المبادرة الأمريكية بشكل كامل، وأكدت أن عملية السلام تقسم إلى قسمين، هما المساعدات إلى غزة وتنمية اقتصادها، والمفاوضات الدبلوماسية الشاملة المستقلة بشأن السلام وحل الدولتين بعيدًا عن اقتصاد غزة.
هذه شهادة اسرائيلية تكشف أن هناك دولا عربية مستعدة للتنازل عن القدس عاصمة لفلسطين، وقبول الفكرة الامريكية الإسرائيلية بأن تكون العاصمة مدينة أبوديس، وأن مصر هى حجر العثرة امام تحقيق هذا المخطط، وترفض خلط الأوراق الذى تسعى إليه امريكا بين حل المشكلة الاقتصادية فى غزة وتنفيذ تسوية سياسية بدون القدس.
وهذا الموقف المصرى هو الذى سيحول صفقة القرن الامريكية إلى وهم كبير، فرغم محاولة امريكا استغلال الضغوط الاقتصادية على الأردن، واستغلال محاولات الانفتاح التى تقوم بها بعض دول الخليج، فى القبول بصفقة القرن مقابل التلويح بمساعدات اقتصادية ومزايا ضخمة قد تنجم عن التعاون العربى الإسرائيلى بعد ذلك، إلا أن الموقف المصرى والمدعوم من دول عربية مهمة يحول دون اتمام المخطط الامريكى.
ويبقى أن تنحاز الفصائل الفلسطينية إلى المصالح العليا للشعب الفلسطينى بعيدا عن المصالح الضيقة والتدخلات الخارجية، وتستكمل المصالحة الفلسطينية، فبدون موقف فلسطينى داخلى موحد وقوى لن تستطيع مصر وشقيقاتها فرض تسوية عادلة للقضية.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع