بقلم - عبد اللطيف المناوي
هناك شخصيات مهمة ظلمتها الأحداث، مثل طه حسين، الذى تُوفى يوم ٢٨ أكتوبر سنة ١٩٧٣، فى وقت لم يكن يعلو فيه صوت على صوت معركة العبور، ورغم الحزن على رحيل الرجل، وجنازته الرمزية التى خرجت من جامعة القاهرة، وتلاميذه الذين حملوا نياشينه وكتبه، فإن الأحداث وقتها كانت أكبر من فقدان أحد رموز الفكر المصرى، ربما الرمز الأهم فى تاريخ الفكر المصرى، بل العربى.
واليوم، أو بالأحرى الأمس، كان من المفترض ألا يعلو صوت على صوت الاحتفاء بمرور ٥٠ سنة على رحيل طه حسين، لكن للأسف علا بشدة صوت قنابل وقذائف الإسرائيليين فى حرب الإبادة التى تشنها تل أبيب على قطاع غزة. ارتفعت أصوات صرخات الأطفال، وأسمعت مَن به صمم، لكن الواضح أن المجتمع الدولى تعدى مرحلة الصمم، التى قصدها أبوالطيب المتنبى فى قصيدته الشهيرة.
قبل ذكرى طه حسين الخمسين، اندلعت حرب غزة، وتفاقمت آثارها، وسيطرت الرغبة فى الانتقام على عقل وقلب الدولة العبرية، سيطرت على العالم فكرة قانون الغاب والقضاء على الضعيف، ومن ناحية أخرى سيطرت علينا حالة من الارتباك الشديد فى ردود الأفعال، بين المطالبين صراحة بدخول حرب، وبين من خلطوا المقاومة بحماس، ومَن يجلسون على المقاهى يحتسون النرجيلة ويقولون بفم ملىء بالجهل إن الفلسطينيين هم مَن باعوا أراضيهم.
إلى هؤلاء جميعًا أقول: ما أحوجنا لإعادة دراسة وتدريس طه حسين بالمدارس والجامعات، إذا كنا صادقين فى مواجهة الجهل والجهلاء.
لقد بدأ طه حسين معركته التنويرية الحادة بكتابه «فى الشعر الجاهلى»، الذى صدر عام 1926 عن دار الكتب المصرية، وأثار حينها عاصفة من الجدال وكان له دوى كبير فى الأوساط الفكرية والثقافية المصرية والعربية؛ لما تضمنه من آراء جديدة صدمت جهات كثيرة، خصوصًا الدينية المتزمتة، وحتى فى أوساط بعض النقاد العقلانيين، الذين اتهموه بالقفز فوق التاريخ، وكذلك اتهام الإسلاميين له بالكفر، وبخيانة التاريخ العربى والإسلامى.
تم منع هذا الكتاب تحت ضغوط بعض الفئات الإسلامية المتطرفة وغيرها، لكن هذه الهجمة جعلته يصر على موقفه. ومما قاله فى هذا الأمر آنئذ: «جادِلونى بدلًا من أن تتهمونى، فإن ما أكتبه هو اقتراح للمناقشة، أقنعونى ولا تقمعونى».
وأظن أن تلك الجملة التى قالها طه حسين هى جملة تأسيسية للفكر الإنسانى عمومًا، هى دعوة إلى النقاش والإقناع، وتوضيح الصورة، وهو ما لا يقبله الآن قادة العالم، الذين سيطرت على عقولهم النظرة الواحدة والرأى الواحد.
منذ إصداره كتاب «فى الشعر الجاهلى»، ومعاركه ضد الجهل والجهلاء لم تتوقف، وأظن أن أهمية طه حسين الحقيقية تكمن فى أنه لم يكن مجرد متلقٍّ للمعطيات، بل حاول إعادتها إلى بنياتها الأولى، ومن ثَمَّ إعادة بنائها، وهذا ما جعله يناقش القضايا بموضوعية شديدة، ربما تكون غائبة الآن.