بقلم - عبد اللطيف المناوي
هل تصدقنى يا عزيزى القارئ إذا ذكرت لك أن قادة المفكرين والأدباء من توماس كار لايل إلى تشارلز ديكنز، صاحب «قصة مدينتين»، كانوا فى طليعة الحركة الإصلاحية فى بريطانيا أواخر القرن الـ19؟
هل تصدقنى إن ذكرت لك أن الخسائر البشرية والبيئية الناجمة عن التصنيع فى أوروبا، والفساد الملحوظ وعدم فاعلية المؤسسات السياسية، وسيطرة مجموعة صغيرة من النخب المالكة للأراضى على السياسة، واتساع فجوة التفاوت الاقتصادى، أصابت مجتمعات القارة العجوز بالضعف، لذا لجأت المجتمعات إلى مفكرين وأدباء حتى يقودوا ثورة حقيقية فى المجتمع، ولهذا وصلوا إلى ما هم عليه الآن؟
ربما لا تصدقنى، أو تهوّن كثيرًا مما تستطيع فعله الحركات الفكرية فى المجتمعات، لكنه ليس كلامى، بل هو محتوى «روشتة» أو نصيحة تقدمها مؤسسة «راند» الأمريكية بتكليف من «البنتاجون» لتقييم الوضع التنافسى للولايات المتحدة فى مواجهة الصين الصاعدة. والمدهش أن الدراسة التى قدمتها المؤسسة الأمريكية المهمة تشير إلى أن الولايات المتحدة فى طريقها نحو انحدار شبيه بما حدث لكثير من القوى العظمى فى السابق، مثل إنجلترا وفرنسا فى العصور الوسطى.
الدراسة تؤكد أن هناك الكثير من القيم التى تسود المجتمع الأمريكى تؤدى به إلى حافة الهاوية، ولا تستطيع أن تجعله منافسًا أو ندًا قويًا للقوى الصاعدة فى العالم، ومنها الصين. ومن بين تلك القيم الإدمان على الترف والانحطاط، والفشل فى مواكبة المتطلبات التكنولوجية، والبيروقراطية المتحجرة، وفقدان الفضيلة المدنية، والنخب الأنانية والمتحاربة، والممارسات البيئية غير المستدامة، فضلًا عن تباطؤ نمو الإنتاجية، والشيخوخة السكانية، والنظام السياسى المستقطب، وبيئة المعلومات الفاسدة.
وتنصح المؤسسة بـ«التجديد الوطنى الاستباقى»، أو بمعنى أدق أن تعالج المشكلة قبل حدوثها، أو أن تستبقها بسلسلة من الإجراءات والأفكار التى تعيد إلى الوطن مكانته الأولى، واستشهدت الدراسة بما ذكرته فى البداية بما حدث فى بريطانيا، كما استشهدت أيضًا بما حدث فى أمريكا ذاتها أواخر القرن التاسع عشر، حيث أدى الازدهار الصناعى خلال هذه الفترة إلى خلق تفاوتات وأضرار اجتماعية كبيرة، وفساد فادح فى الدولة، إلا أن روزفلت قاد حركة تقدمية أصلحت السياسة والأعمال وحقوق العمال والبيئة، وذلك باستعانته بأفكار بعض التقدميين والمفكرين، الذين سعوا إلى ضخ الحيوية فى الثقافة الحديثة للولايات المتحدة الأمريكية.
قد يبرز سؤال هنا، وهو: كيف نهضت بريطانيا وأمريكا بالمثقفين والمفكرين التقدميين؟
الدراسة أجابت بكل وضوح، إذ أكدت أن قراءة ما كتبه وطرحه ديكنز مثلًا فى رواياته الشهيرة أو ديكارت فى فلسفته المنهجية الأثيرة، كان مخرجًا لدول أوروبا لعودة القوة إلى مجتمعاتها، حيث اعترف قادتها بالمشاكل، وآمنوا بالإصلاح، وانفتحوا على كل الأفكار، إضافة إلى التزام النخب المثقفة والمفكرة كذلك بالصالح العام.
أمريكا التى وصفتها الدراسة بأن شمسها تواجه الأفول، ربما تبحث عن بارقة أمل فى مثقفيها ومفكريها تعيد هذه الشمس إلى السطوع من جديد، فهل تُفلح؟.