بقلم - عبد اللطيف المناوي
لا أتفق مع كثير من سياساته كالكثير من الناس، لكنى أحمل له إعجابًا خاصًّا بقدرته على الاستمرار في العمل والتفكير حتى لحظاته الأخيرة.
كانت المرة الأخيرة التي شاهدته فيها عندما حضرت لقاءه في مؤتمر (دافوس)، منذ عامين، وكان يحتفل وقتها بعيد ميلاده التاسع والتسعين، كان متأنقًا ومتألقًا، ظل حاد الذكاء، قادرًا على الاستيعاب والتحليل، وقادرًا على أن يكون مؤثرًا في العديد من الموضوعات السياسية المطروحة على مائدة العالم.
هو صاحب «الجولات المكوكية»، أو بالأحرى «الدبلوماسية المكوكية»، التي ارتبطت به وبأسلوبه في حل المشكلات بين الدول. هو هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، الحائز على جائزة نوبل للسلام، وقبل كل هذا هو الشخص المثير للجدل، وصاحب القوة الدبلوماسية، حيث تركت خدمته في عهد رئيسين علامة لا تُمحى على السياسة الخارجية الأمريكية.
كيسنجر، الذي رحل بالأمس، ظل حتى آخر شهور حياته يعمل، ظل يعمل، حتى بعد أن وصل إلى 100 عام، حيث نشر كتابًا عن أساليب القيادة، وأدلى بشهادته أمام لجنة في مجلس الشيوخ حول التهديد النووى الذي تشكله كوريا الشمالية. والغريب أنه في يوليو قام بزيارة مفاجئة إلى بكين للقاء الرئيس الصينى.
وفى أكتوبر الماضى، ونحن نحتفى بالذكرى الـ50 لحرب أكتوبر، اعترف كيسنجر بأنه فوجئ بالحرب، قائلًا إنه لم يكن يتوقع أن يقوم المصريون بالحرب على هذا النحو، وتوقع كيسنجر انتصار الإسرائيليين على المصريين خلال ساعات، وهو ما لم يحدث. تخيلوا أنه يفعل هذا وهو في المائة عام!.
العلاقة بيننا كمصريين وبين كيسنجر كانت متوترة لأن اسمه ارتبط بكونه أحد عرّابى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والتى في حين كانت تُرضى طرفًا من المجتمع المصرى، كانت تُغضب الطرف الآخر، فقد تضاءل دوره كمهندس رئيسى للسياسة الخارجية الأمريكية، مع استقالة نيكسون في عام 1974، ولكن لما جاء عهد الرئيس جيرالد فورد، أبدى الرجل آراءً قوية في هذا الحين.
بدأ كيسنجر مهمته في عملية السلام المصرية الإسرائيلية لدى تولى كارتر مهام منصبه في 20 يناير 1977، حيث تحرك إلى إنعاش المحادثات في الشرق الأوسط، واختار كارتر استبدال محادثات السلام الثنائية المتزايدة، التي ميزت «الدبلوماسية المكوكية» لهنرى كيسنجر في أعقاب حرب أكتوبر، بنهج آخر أشمل ومتعدد الأطراف.
وبينما أشاد الكثيرون بكيسنجر، وصفه آخرون بـ«مجرم الحرب» لدعمه الديكتاتوريات المناهضة للشيوعية، وفى سنوات عمره الأخيرة، كانت رحلاته مقيدة بجهود بذلتها دول أخرى لاعتقاله أو استجوابه بشأن السياسة الخارجية الأمريكية السابقة.
هكذا هي الشخصيات السياسية، يتم التعامل معها حسب الموقف، فمَن تراه صديقًا هو عدو لآخر، ومَن تراه عدوًّا هو صديق لآخر. ورغم كل ما يُقال عن كيسنجر، فلا تملك إلا أن تحترم مسيرته، حتى ولو لم توافق على بعضها.