عندما مات تشى جيفارا، الثائر اللاتينى الشهير، غنى له الشيخ إمام أغنية «جيفارا مات»، وكانت أشبه بمرثية خاصة لرجل عاش حياته فى مكافحة الاستعمار والفكر الإمبريالى الرأسمالى.
منذ يومين، مات جورباتشوف، فلم يُغنِ له أحد، وحتى لو كان الشيخ إمام بيننا فى الحياة الدنيا أتصور أنه لو غنى له فستكون هجائية لا تقِلّ عن هجائيات «نيكسون بابا» أو حتى هجائيات الشعراء العرب القدامى.
ولكن لماذا؟ السبب قد يكون فى أثر جورباتشوف النهائى. كان «فلاديمير لينين» أول زعماء الاتحاد السوفيتى، وكان «ميخائيل جورباتشوف» آخر الزعماء، بنى لينين وستالين إمبراطورية كبرى كانت تمثل سُدس العالم، وهدم جورباتشوف الإمبراطورية فى سنوات قليلة.
لقد كان جورباتشوف فى سنواته الأولى عاملًا فى مجال الجرارات الزراعية، وفى الجامعة درس القانون، ثم عمل بالسياسة، وسرعان ما ترقى فى المسؤوليات الحزبية ليصبح سكرتير الحزب الأول فى إقليم «ستارفوبول» عام 1970، ونجح فى تحسين مستوى المعيشة الأساسى للعمال، وفى عام 1979 أصبح جورباتشوف أصغر عضو فى المكتب السياسى.
انتُخب كأمين عام للحزب الشيوعى من قبل المكتب السياسى فى 1985، وكان يهدف إلى إحداث تغيير وإصلاح فى الحزب واقتصاد الدولة، من خلال إدخال مفاهيم الانفتاح وإعادة الهيكلة ونشر مفاهيم الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. وحاول زيادة كفاءة البيروقراطية السوفيتية، فأدخل العديد من التطورات التقنية التى تهدف لزيادة الإنتاجية وتقليل كمية الهدر، وأثار حملة لمكافحة الكحول.
كما تم انتخابه رئيسًا للاتحاد السوفيتى فى 1988 بنتيجة وصلت لـ59% من أصوات نواب المجلس، وشدد خلال فترة رئاسته على العلاقات الدولية السلمية، فلم يلعب دورًا محوريًا لإنهاء الحرب الباردة فحسب، بل كان له دور أساسى فى تشجيع سقوط جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا، كما تعامل بجدٍّ وحزم مع القضايا الداخلية والإصلاحات الاقتصادية.
لم يكن مريحًا أن يقوم جورباتشوف بمحاولات تأسيس نظم اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة، حتى انتهت سلسلة تغييراته بتفكك الاتحاد السوفيتى، وهو ما أوجد ترحيبًا أمريكيًا كبيرًا نشر فى العالم مصطلحَين غيّرا شكل العالم عما كان من قبل. المصطلحان هما: الجلاسنوست أى المصارحة والشفافية، والبريسترويكا وتعنى إعادة البناء، وكانت النتيجة حدوث خلل وضعف ثم انهيار الاتحاد السوفيتى.
اختفى الرجل من الساحة حتى جاء ظهوره فى أحد الإعلانات التجارية فى العام 1997 للترويج لسلسلة مطاعم «بيتزا هت» الأمريكية بمثابة صدمة كبيرة.. فكيف يقبل الرئيس السابق بالظهور فى إعلان لشركة أمريكية رأسمالية إمبريالية، كما يرونها، ومنتجها الرئيسى (البيتزا) بما تمثله من ثقافة غربية استهلاكية تتعارض مع مبادئ الاشتراكية السوفيتية؟!.
الإعلان لم يكن مجرد دعاية، بل إعلان انتصار الرأسمالية على الاشتراكية. ظهر الرجل العجوز فى الإعلان وهو يصطحب حفيده لتناول البيتزا فى أحد مطاعم الشركة الأمريكية، رمز الإمبريالية الغربية، بما يمثله ذلك من نجاح الغرب فى فرض ثقافته على الجيل الجديد هناك، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى العام 1991 وفشل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المتسارعة التى طبقها جورباتشوف.
فى الإعلان أثار وجود الرجل العجوز جدلًا بين رواد المطعم، بعد أن عرفوا أنه رئيسهم السابق، هاجمه أحدهم لتسببه فى انهيار الاتحاد السوفيتى، وأيده آخر متحدثًا عن الحرية وإتاحة الفرص والانفتاح فى العهد الجديد.
وبعد ذلك، تلقى عددًا لا بأس به من عروض التصوير فى الإعلانات التجارية من هذا النوع، وشارك فى عدد منها لكى يكسب المال، وقد كسب المال فعلًا، لكنه خسر الكثير من شعوب الكتلة التى رفضت العالم أحادى القطب، الذى أصبح بعد ١٩٩١ هو أمريكا فقط.