بقلم - عبد اللطيف المناوي
تفعل فينا السنون فعلتها، نتحول إلى كائنات أعقل، أقل اندفاعا وأكثر تفكيرا وتحفظا. ونسمى ذلك حكمة. ننظر إلى سنوات شبابنا ونضحك منها أحيانا، وننعت أنفسنا بالتهور وقلة الخبرة. ننصح أبناءنا، أيضا بحكمة مفتعلة، ونقول لهم غدا ستكبرون وتعقلون.
يبقى فينا جذوة الاندفاع ورغبة التمرد، الثورة على المألوف وتحدى الواقع وتغييره يبقى كامنا فى داخلنا تغطيه ما واجهناه وعانينا من معارك خسرنا منها كثيرا وكسبنا بعضها. بحثنا عن الاستقرار بعد أن أصبح لدينا من نهتم به وما نخشى من فقده. فتراجعت أحلامنا وصغرت لتصبح بحجم الواقع بعد أن كانت تحلق فى السماء.
غمرنى ذلك الإحساس وأنا أغرق بشكل كلى وتام مع موسيقى «الريجى» وأغنيات بوب مارلى فى الفيلم الجديد الذى صدر هذا العام يحمل اسمه واسم إحدى أغنياته «one love». منذ اللحظة الأولى عدت إلى تلك الأحاسيس القديمة فى الجامعة. نعيش التمرد ونعشق المعارضة ونحلم بتغيير العالم. كل ذلك ونحن نستمع ونعيش مع أغنيات وكلمات بوب مارلى، ونهتز مع إيقاع موسيقى «الريجى».
والفيلم يسرد أسرار فى حياة بوب مارلى الذى يعد واحدًا من أشهر مغنى الريجى عبر التاريخ، وتبدأ الأحداث من عام 1976، عندما يستعد مارلى للمشاركة بحفل فى العاصمة الجامايكية كينجستون. تخيل بوب أن غناءه سوف يوقف نهر الدماء القادم، وأن كلماته عن العدل والحق والسلام ستنجح فى القضاء على الانقسامات العنيفة بين الساسة والميليشيا الجامايكية، وقبل الحفل أطلق مسلحون النار على بوب مارلى وزوجته ريتا التى تُصاب. يقرر مارلى بعدها مغادرة بلاده، والسفر للعيش فى العاصمة البريطانية لندن، ثم يجتمع مجددًا مع فرقته «Wailers» أى النائحين وعندما سألوه لماذا اخترت هذا الاسم أجاب لأننا لحظة ميلادنا نبدأ فى البكاء والنواح ولا نتوقف بعدها.
عاش مارلى معاناة من المعاملة العنصرية فى أمريكا، حيث عاد إلى موطنه ليعتنق هناك الديانة «الرستفارية» فى عام 1966، وهى عقيدة دينية نشأت فى جامايكا فى العقد الثالث من القرن العشرين بواسطة حركة من الشبان السود تعتبر إفريقيا مهد البشرية متأثرين بدعوة القوميّة السوداء التى أطلقها الزعيم الجامايكى الشهير ماركوس كارفى (1887-1940). والرستفارية عقيدة صوفية غيبية تؤمن بالتفسير الإفريقى للكتاب المقدس، حيث تعتبر إثيوبيا هى أرض الميعاد، وتعتقد أن الإمبراطور الإثيوبى هيلا سيلاسى (1892-1976) هو المسيح. وتدعو الرستفارية إلى نبذ العنف، وترفض النظرة المادية للحياة، وتدعو إلى السلام العالمى الشامل.
بوب مارلى امتلك موهبة كبيرة، فهو يكتب الكلمات بنفسه ويلحنها. يكمن سر نجاحه الساحق فى بساطة كلماته والرسالة التى ينشرها التمرد على الظلم، والعدالة، والحرية، والسلام، ومحاربة الفقر، والحب بكل أنواعه.
رغم موته شابا فى الـ36، إلا أن أغانيه التى هدفت دائما للحرية والحب والسلام ظلت باقية.
انتهى الفيلم الذى أيقظ روحا حالمة متمردة دفعتها الحياة إلى منطقة الحكمة والعقل.