يكرِّر الكثيرون أن هناك قِيَمًا إنسانية رفيعة لا تنكرها ثقافتُنا العربية الإسلاميةُ في جوهرها، وخاصة فيما يتعلَّق بالمرأة.. وبقَوْلهم هذا؛ يُشيرون لبعض الحقيقة، لكنهم يفضِّلون عدَم اتخاذ موقع إيجابىّ يعكُف على عملية من الفَرْز الدقيق لكثير من الخطابات الخاصة بالمرأة، سواء على قاعدة دينية أو ثقافة مجتمعية تجذَّرت في الوعى الجمْعى العميق وأنساقه الثقافية، وينسحب هذا الفرز والتدقيق الذي أعنيه، سواء على مستوى النصوص الدينية وتفسيراتها وتأويلاتها البشرية أو المقولات الاجتماعية التي تهزُّ صورة المرأة لدى الرجُل، كما تشكِّلُ رؤيتها لِذَاتِها وإمكاناتِها.
ويتجنَّب الكثيرُ من النُّخَب المثقفة الصدامَ مع التيارات المتشدِّدة من الإسلاميين، رغم يقينهم بأن مقولاتِ تلك الجماعاتِ لا تصدُر ضِمن مراعاة الحقوق الإنسانية المُطْلَقة للمرأة؛ بل تصدُر من ثقافة ذكورية هيْمَنت طويلًا على الوعى العام للشعوب التي لم تستكمل أطوارَ نموِّها الثقافى والعلمى، ويفضِّل هؤلاء النُّخب المواقعَ الآمِنةَ، والنأى عن الصِّدام مع عقول تحجَّرت ولن تتخلَّى عن مكتسبات تاريخية طالما نعمِتْ بها، متجنِّبين فرْز ما تجاوزته الصيرورة ودواعى التطور، رغم معرفتهم بأن مكانَ تلك الخطابات متاحفُ التاريخ وحفرياته.
المؤكَّد أن هذا الموقفَ المهادِنَ مع تلك الخطابات لن يؤدِّى- في يومٍ من الأيام- إلى إنجاز نقْدٍ حقيقىٍّ لهذه الثقافة؛ لأن ما يتصوَّره المثقفون من سياسة كسْب المعارك بسياسة الأنفاس الطويلة، ودحْضِ الأفكار واحدة تلْوَ أخرى، وتقويض فحواها، وينصبُّ اعتراضُهم على مجرَّد بعض المظاهر، لن يمكِّنَهم من مواجهة الجذور الفكرية لتلك المشكلات الثقافية الدينية الاجتماعية ومناقشتِها بعقلانية، ومن منطلَق الحقوق الإنسانية المطْلَقة، فهُم لا يصرِّحون بعوَارها الإنسانى، ولذا يتركون الخطاباتِ الاجتماعيةَ والدينية الظالمة تصبح أكثر رسوخًا وانتشارًا بين الطبقات كافة، فتظَلُّ بدَوْرِها تشكِّل التكوينَ النفْسى والثقافى للجموع.
وطالما لمْ تَسْعَ النُّخبُ لتتكشَّفَ تلك الأرضيةَ؛ ويُعاد تقييمُها وجدواها، ويُعلَن صراحةً عدَمُ صلاحيتها في هذه اللحظة المعاصرة؛ لا يمكن أن نتوقَّعَ تغييرًا حقيقيًّا في ثقافة البلاد الإسلامية، وخاصةً فيما يتعلَّق بحقوق المرأة.
فأى نهضة حقيقية تتطلَّب موقفًا عقلانيًّا جذريًّا، يشمل مستوى التنظير من الأساس والظواهر، وأن تكون المناقشاتُ صريحةً غيرَ مرتعِشةٍ، وعدْم القبول بالوِصاية، بل تتأسَّس بما يتَّسقُ مع تطورات المنجَز الحضارى البَشَرى.
من بعض تلك المقولاتِ ما يتردَّد حول أن المرأةَ ناقصةُ عقْل ودين.. وإنّهن خُلِقن من ضِلْعٍ أعوجَ.. إنْ ذهبتَ تُقيمه كسَرْتَه.. أو لعَنَ اللهُ قومًا ولَّوا أمرَهم امرأةً.. أو أنَّ أكثر أهلِ النار من النساء.. أو لو أُمِر إنسانٌ أن يسجدَ لغير الله لأُمِرتْ الزوجةُ أن تسجُد لزوجِها، أو التفسيرات الهزْلية لكيفية ضرْبِ المرأة، وتسويغ الفِعل دون مراعاةٍ لكرامة النساء، وصوتها العورة وجسدها، وشكل ملابسها وحجابها أو نقابها، وكونها مشروعَ غوايةٍ دائما، كما يُتدَاوَل أيضا أن المرأة عاطفيةٌ متردِّدة، غيرُ منظَّمة، عشوائيةُ التفكير وردود الفِعل؛ ولذا تتسبَّب مشورتُها في الخرابِ القريب كما البعيد، وتلك مقولاتٌ تُفقِد الجميعَ الثقةَ فيها؛ حتى النساء أنفسهن.
ولكل هذه الخطابات- وغيرها الكثير- خطورتُها على مستويَين، أولًا: فيما يتعلَّق برؤية المرأة لكيانها، حيث تصدِّق المرأةُ ذاتُها تلك المقولاتِ؛ لأنها تصدُر عن رِجال دِين، كما تُعد أعرافًا اجتماعية متوارَثة، فتعى نفْسَها كائنًا أدنى من الرجُل، وتسلِّم بالأمر دون تفكير أو تفنيد، فتنكمِش على إمكانات فطرية محدودة ولا تعمل على تنمية قدراتها، فمهما حاولتْ؛ ستظلُّ تحت الانتقاص والتعتيم، فتميل إلى الاستسلام، وتتقبَّل ما يحطُّ من شأنها دون أن تعلمَ ظُلمَه وتتصوَّره أمرًا طبيعيًّا؛ بلْ تكرِّس له مع بناتها.
ثانيًا: يُقنِع الرجُل والمجتمع أنفسهم بأنهم يكرِّمون النساءَ، ويستوصون بهِنَّ خيرًا، في حين يمارسون ظُلمَهم على خلفيةٍ دِينية ومجتمعية.
كما أُشير لنوع آخَرَ من الظُّلم يقع على المرأة، ظُلم مستتِر، لكن أثره عميق يتغلغل بالنفوس، يتجلَّى في اللغة والأدب والمجاز، فجميعنا يعلم أن بنية أي عملٍ أدبى تنهض على مجموعة من المفردات والرموز والتشبيهات والمجازات، وضِمن كثرةِ ما قرأتُ شعرتُ بشىء مُنافٍ للطبيعة والمنطق في معظم النصوص الأدبية. وتساءلتُ: هل أضرَّت الرموز المستخدَمة في الأدب بالمرأة، أضرَّت بوعيها عن ذاتها، ووعى الآخَرين في المجتمعات بها؟.. أعنى هل أضرَّ الرمزُ الذي وُظِّفتْ فيه المرأة في النسَق الثقافى العام في الغرب والشرق بالنساء وطريقة تفكيرهن في ذواتهن وتفكير الآخَرين بهن؟.. فحين ترِدُ المرأةُ في الأدب- منذ البدايات البعيدة- تكون رمزًا للأرض أو الحياة أو الوطن أو البيت أو غيرها من تلك الرموز، التي لا تكون فيها فاعلةً بنفْسها؛ بل مستقبِلة لما يفعله الرجُل والمجتمع، لا تأتى في موضِع الكيان الذي يريد ويفعل ويفكر، وغالبًا ما تأخذ موقعَ المفعول به، كما تنحصر غالبًا في تصويرها كيانًا يهب معنى الخصوبة والعطاء؛ ولذا فهى عادةً متنازَع عليها.
كما لاحظتُ أن التساؤل حول قضايا الوجود والميتافيزيقا في الأدب غالبًا ما يصدُر من الرجُل، وكأن المرأةَ لا تتساءل، ولا يعنيها بتلك الدنيا سوى رعاية ما أنتجَتْه، وغرائزها التي حدَّدتْها لها الثقافة الذكورية، فهى ليست مرسِلًا؛ بل مستقبِل في الغالب.
وأحسبُ أنه بتكرار تلقِّى المرأة لنفْسها على هذا النحو؛ تُدجَّن قدراتُها وفْق هذا التصور، ويستقرُّ بوعْيها، فترَى نفْسَها في حدود الإطار الذي يضعونها فيه، وهو ما يجب أن يفكِّكَه متخصِّصو النقد واللغة وعلماء الاجتماع وعِلم النفس، ويعاودوا مناقشتَه وإبراز العوَار فيه، كما يجب أن تنتبهَ له الحركات النسوية والكاتبات، فالأساطير والرموز فانتازيا خلَّاقة، ولذا تكتسب أهميةً كُبرى في سيكولوجيا اللاشعور، ويمكن اعتبارها تمثيلًا للذات في العمليات النفسية، حيث لا تظهر تأثيراتُها الشعوريةُ إلا في الأحلام والفنون.. ومن طبيعة الرمز الأصيل أن يكون دِلاليًّا، أن يوصِّلَ معلوماتٍ لا يمكن القبض عليها بالكامل في اللغة الاستطرادية. يقول هنرك زيمر: «مَن يوَد مناقشة الرمز؛ يكتشف قصورَه وانحرافَه، خاصةً إذا انفعل بمعنى الرمز بدل أن يسبِرَ أغوارَه».
فتكرار تجسيد المرأة في الأدب: أرضًا وحياةً ووطنًا وبيتًا؛ يُسهِم- دون أن ندرى جميعًا- في النظر للمرأة، ليس بعدِّها كائن بَشَرى مكتمِل الجوانب الإنسانية، يفكر ويتساءل ويفعل، يجادل ويؤثر ويبتكر. فالحياة ليست امرأة، وليست عاهرة كما يحلو للبعض تصويرها.
كرَّستْ هذه اللغةُ لوجود مدوَّنة أدبيةٍ لا تحتفى بالمرأة إلا في نطاقٍ معيَّن، وهذه قضية محورية لا يستهان بها، حيث ظَلَّت لغة التواصل، واللغة الفنية- التي تحمل الطابع الذكورى المهيمِن- ملهِمةً لسيادة خيال الرجُل الجنسى، ونَهَمِه الذكورى الغرائزى حين يتناول المرأة.. وعندما شرَعَتِ المرأةُ تكتب؛ لم يكن أمامها سوى هذا الموروثِ اللغوى والمجازى الذي تلبَّسها؛ فأعادت منتَج الرجُلِ الأدبى عنها، إلا فيما نَدَرَ من حالات.
فالطبائع والأخلاق والقِيَم تُربى، توضع وتتردَّد ويتم تداوُلَها، تتسرَّب إلى الوعى العميق؛ فيصدِّق البَشر جانبًا كبيرًا منها.