لم تزل مجتمعاتنا وثقافتنا العربية حتى هذه اللحظة بحاجة إلى روح وثّابة مثابرة مثل روح فارس التنوير، طه حسين، شخصية ذات إرادة، قادرة على تحدّى كل أنواع الإعاقات، ومواجهة أكثر القضايا حساسية فى مجتمعات محافظة، لم نزل بحاجة إلى فكره العقلانى المتجدد لتوطيد حركة التنوير فى المجتمع المصرى والعربى على أوسع نطاق، وخاصة فيما يتعلق بقضايا النساء، الرجُل الذى خاض معاركه الفكرية بشجاعة العلماء، الذين لا يخشون السباحة ضد تيارات الرجعية والتأبُّد لإعلاء العقل البشرى والتعليم والثقافة، المفكر الذى آمَن بمراجعة الأفكار، على أرضية الواقع المتغير، واختلاف معطياته ومعاييره فى كل مرحلة زمنية.
ولقد أدرك طه حسين مبكرًا، ومنذ عودته من أوروبا، أن خطاب الإصلاح والتنوير لا يمكنه أن يجد مسارًا فى الوعى الجمعى لمجتمعاتنا العربية، فى ظِلِّ نزعة العودة إلى الماضى، وتقديس السلف، والعَيش خارج التاريخ، وفساد بعض الخطابات الاجتماعية والدينية والسياسية، وفى ظِلِّ مناخ ثقافى مقيِّد للحريات، وانتشار الفقر والأُمية، وعدم توفُّر المناخ المناسب لتلقِّى خطاب التحديث.
فمنذ خرج طه حسين- من قريته فى الصعيد المصرى إلى الأزهر- صبيًّا كفيفًا؛ ظَلَّ يبحث عن شىء لم يحدِّدْه فى البداية، يتطلَّع إلى المعرفة، والقدرة على التساؤل حول كل القضايا دون قيْد أو منْع، التمرد على ما يسمعه ولا يتوافق مع العقل ولا المنطق، ضِيقه من النقْل والعيش فى الماضى، لكنه لم يجِدْ- لدى شيوخه فى الأزهر- ما يتطلع إليه، وضاقوا به، فالتحق بالجامعة المصرية، التى نال منها درجة الدكتوراة فى رسالة الغفران للمعرى، ثم بدورها أرسلته الجامعة إلى فرنسا عام 1914 لدراسة العلوم التاريخية والفلسفية، والحصول على الدكتوراة الثانية.
وهناك نهَل من علوم الغرب، ومناهجهم البحثية، تشرَّب بفنونهم وثقافتهم، لمَس قيمة الحرية، رأى وعايش المتغيرات التى لحقت بحقوق النساء فى أوروبا. ثم عاد إلى مصر، وهنا بدأت رسالته، وخاض معاركه الواحدة تِلْوَ الأخرى؛ ليرسِّخ لمفاهيم العلم ومناهج البحث، الحرية، إعلاء العقل البشرى، وإعادة النظر فى الموروثات، أهمية التعليم، وأن تتوجَّه مصر إلى الحضارة الغربية، تتخذها نموذجًا دون ذوبان؛ لأننا نملك عناصرَ وسماتِ هُوَيَّتِنا الخاصة، وذلك من أجْل المستقبل، وتطوير حياتنا الثقافية والتعليمية، فغاية المفكِّرين تتمثلُ فى بناء وتأسيس منظومات معرفية وثقافية جديدة، وإرساء أنساق فكرية مختلفة، تنهض على أنقاض القِيَم القديمة، التى حاربوها، ولا يتأتَّى النجاحُ فى هذه المساعى الكبرى إلا لذوى الرؤية والإرادة والمثابرة.
ويتجلَّى النزوع التنويرى لدى طه حسين فى كل منتجه، وهو اتساق شمَل مؤلَّفاتِه فى الإبداع الفكرى، والأدبى، وحتى فيما يعرضه من أدب عالمى للقارئ العربى.
ففى مقال له فى كتابه «ألوان» بعنوان «صور من المرأة فى قصص فولتير» يحكى عن نماذج النساء التى جاءت فى قصص وحكايات فولتير، ويعدد أشكال تغيُّر العواطف وتبدُّلها فى النساء والرجال أيضًا، ويقف فى نهاية عرْضه؛ ليعاوِد الحديث عن أميرة بابلية أحبَّت فارسًا، وخرجت تبحث عنه. يقول: «وهى تريد أن تُرضى هذا الحب لأنها تعوَّدت أن ترضى كل حاجاتها، وأن تبلغ كل ما تريد، ولكنها على ذلك مترددة ما دامت فى ظِل أبيها الملك، وما دامت خاضعة لنُظُم القصْر وتقاليده، فكل خصالها كامنة فى قلبها كما تكمن النار فى العود.. وإذا خرجت من المدينة ومعها طائرها ظهرت هذه الخصال كلها».
حتى وهو بصدد عرْضه لبعض الأدب الفرنسى للقارئ، لا ينسى القضايا التى تشغله، تلك التى يتمنَّى لو أنه أسهَم فى تغيُّر رؤى المجتمع المصرى لها، فيتحدث عن خروج النساء عن القَيد والهيمنة، عن حرياتهن التى إنْ حصَلْنَ عليها ومارسْنَها؛ لاستطَعْن أن يَظهر ويتضح جوهرُهن الحقيقى.
وحظيت قضية المرأة فى مشروع طه حسين التنويرى بحضور يتكرر بأشكال متعددة فكريًّا وفنيًّا، فكان حريصًا على أن تنال المرأة فى مصر حريتَها وحقَّها فى التعليم واختيار الزوج والعمل، وذلك بداية من سيرته الذاتية «الأيام»، أو أعماله الإبداعية الأخرى، مثل نماذج النساء فى «شجرة البؤس» و«دعاء الكروان» و«خطبة الشيخ». كما يتبدَّى انشغاله بالمرأة واهتمامه بها فيما كتبته عنه سوزان زوجته، التى كان يصفها بـ«المرأة التى أبصرتُ بعينها».
تنقل «سوزان طه حسين»- فى سيرتها «مَعَك»- جانبًا من شخصيته، وكيف أن قضية المرأة كانت من أهم القضايا، التى شغلته. تحكى سوزان فى سيرتها كيف أنها فى كل اجتماع أو مؤتمر حضرته فى مصر بصحبة طه حسين؛ عادة ما تكون هى المرأة الوحيدة من بين الحضور، وتسرد هذا الموقف الدالّ على عقلية المشايخ عن المرأة مقابل عقلية طه حسين المتفتِّحة، التى تسعى لأن تكون المرأة شريكًا للرجُل فى جميع مجالات الحياة، فأثناء نقاش فى مجلس لإعداد حفلة لتخليد ذِكرى الأستاذ الإمام محمد عبده، نجد أن ما يشغل طه حسين هو سؤاله للحضور: «هل ستشارك نساء فى هذا الاحتفال؟»، فيرد عليه لطفى السيد «لا. لا نساء ولا فوضى، ثم إنى يا دكتور طه لا أرى ما يدفعك إلى طرح هذا السؤال»، وبعدها يلقَى طه حسين هجومًا شديدًا من المشايخ الحاضرين فى الاجتماع.
وتحكى سوزان عن الطريقة الحضارية التى كان الرجُل يربِّى بها ابنته «أمينة»، التى كانت تتمتع بقدْر كافٍ من الحرية، غير الشائعة فى بلاد الشرق فى هذا الزمن، دون أدنى تمييز بين ولد أو بنت.
ولطه حسين مواقفُ، كان لها الفضل فى أن تنال المرأة المصرية حقَّها فى دخول الجامعة، فقد كان الدستور المصرى يعطى لكل مصرى الحق فى دخول الجامعة، لكن نخبة هذا الزمن استغلت أن اللفظ الذى وَرَدَ فى النَّص كان مذكَّرًا، من ثَم فهو لا يعنى النساء. لكن طه حسين دفَع الأمر إلى الأمام، كشأنه دومًا فى مثل هذه الحالات، وقال للطفى السيد: «ألا تعنى كلمة مصريين كل سكان ربوع مصر؟»، فأجاب لطفى: «دون شك»، فقال طه: «إذًا ألَا يعنى ذلك النساء أيضًا؟». وكان لطه حسين ما أراد، وتخرجت من بين هؤلاء الفتيات الدكتورة سهير القلماوى، التى تصِفُها سوزان بأنها «الابنة الروحية لطه حسين».
فى سيرته «الأيام»، يشير إلى ما كانت تعانيه المرأة المصرية فى هذا الوقت- وحتى الآن- من تزويجها مبكرًا، وفى «دعاء الكروان» جسد كيف تُغتال المرأة وتفقد حياتها نتيجة لأعراف اجتماعية كان من الطبيعى أن يتم علاجها ومواجهة تداعياتها منذ قدم دُرّته عام 1934، لكننا مجتمعات لا تعرف كيف تعلو ثقافتها وتتطور بجهد وعلم مفكريها.