أتمنى ألا تتكرر هذه الهجمات غير المدروسة جيدًا، والتى ينتج عنها إزهاق أرواح الآلاف من أهل فلسطين، مع التركيز على الأطفال والنساء بغير مردود حقيقى على مستقبل فلسطين الجريحة.
بعد انفجار الصراع مؤخرًا بين الفلسطينيين والكيان الغاصب، لاحظت أن الكثير من شبابنا لا يُلِمّ بحقيقة وتاريخ هذا الصراع، بل إن منهم مَن يتعامل معه على أنه صراع دينى بين الإسلام واليهودية، وهو ما تركز عليه الجماعات المتطرفة، في حين أن أرض فلسطين يطلق عليها الأرض المقدسة، فالقدس عند المسلمين هي أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام، وعند المسيحيين مهد المسيح، عليه السلام، ومكان مولده، وعند اليهود هو المكان الذي عاش فيه ملكهم وبنى فيه هيكلهم.. ولكن القصة في حقيقتها تتلخص في رغبة اليهود الصهاينة في الاستيلاء على أرض فلسطين تحديدًا تحت ضغط ادعاءات دينية بوجود ما يسمى «قدس الأقداس».. ولذلك سوف أحاول اليوم كشف حقيقة القضية أمام شبابنا.
أولًا: لماذا فلسطين وكيف؟
بداية لابد من التفريق بين اليهودى وهو مَن يدين باليهودية والإسرائيلى وهو اليهودى الذي يعيش في إسرائيل، والصهيونى وهو غالبًا اليهودى المؤمن بضرورة لَمّ شمل اليهود في مكان واحد للتخلص من عقدة التفرق في أنحاء العالم.. وقد بدأت الفكرة منذ أيام حملة نابليون بونابرت الفرنسى (1799)، حيث دعا يهود آسيا وإفريقيا للانضمام إلى حملته من أجل بناء مدينة القدس القديمة، وقد جند منهم عددًا كبيرًا في جيشه، إلا أن هزيمته حالت دون ذلك.. ثم بدأت الفكرة تظهر على السطح مرة أخرى، وكان التخطيط الفعلى من إصدار تيودور هرتزل، الزعيم الصهيونى في عام 1896، ثم عقد المؤتمر الصهيونى الأول في سويسرا عام 1897، وجاء في خطاب الافتتاح: (إننا نضع حجر الأساس في بناء البيت الذي يؤوى الأمة اليهودية)، وقد كانت هناك ثلاثة أماكن مقترحة (فلسطين والأرجنتين وأوغندا)، وتم اختيار فلسطين للدافع الدينى المختلق، وإنشاء جمعيات عديدة علنية وسرية لخدمة هذا الهدف، والاستعانة بوزير خارجية بريطانيا لإطلاق وعد لمنح اليهود حق إقامة وطن قومى لهم في فلسطين!!، وبدأت هجرات اليهود إلى فلسطين، التي كانت تحت الانتداب البريطانى، واستطاعوا تكوين دولة داخل الدولة الحقيقية فلسطين تحت الحماية البريطانية، ومع ضعف النفوذ البريطانى أُحيل الأمر إلى الأمم المتحدة، التي تدعمها أمريكا، التي أخذت دور بريطانيا في المنطقة، وصدر القرار بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وهو ما رفضه العرب، وكان اليهود في البداية يشكلون نسبة أقل من 8% حتى عام 1920، وزادت تدريجيًّا مع تصاعد هجمات العصابات الصهيونية، وفى عام 1948 قامت الحرب بين العرب وإسرائيل (مملكة الأردن ومملكة مصر ومملكة العراق وسوريا ولبنان والمملكة السعودية)، وانتهت بهزيمة العرب (حرب النكبة)، وبدأت حملة تهجير عرقى (تقريبًا 50% إما غادروا بيوتهم أو طُردوا منها، واستقر كثيرون منهم في مخيمات لاجئين في الدول المجاورة).
بعد هذا التاريخ المختصر، يمكن أن نفهم مغزى ما رأيناه مؤخرًا بعد طوفان الأقصى من تصرفات بعض الدول، والتى تكشف الحقائق الآتية:
1) بريطانيا هي صاحبة وعد بلفور، والحاضنة للكيان الصهيونى منذ نشأته، وقد تُرجم ذلك في هرولة رئيس وزرائها متعاطفًا وحزينًا إلى إسرائيل وهبوطه من السلم الخلفى للطائرة، المُحمَّلة بالأسلحة والمُعَدات، في مظهر كريه ومُهين لا يليق بدولة عريقة.
2) أمريكا هي التي شجعت الأمم المتحدة على قرار التقسيم، وكانت من أولى الدول التي اعترفت بإسرائيل، ثم تكفلت برعايتها وحمايتها كما لو كانت ولاية أمريكية يهرول رئيسها بايدن فور الإعلان عن الهجوم إلى مجرم الحرب نتنياهو حزينًا ومتألمًا، ويشجعه على ضرورة الانتقام.
3) ألمانيا المغلوبة على أمرها، والتى يبدو أنها لا تزال تعانى عقدة الذنب لما فعله هتلر مع اليهود ولا تزال تدفع مبالغ التعويض لأهالى ضحايا المحرقة، وقد سارع مستشارها إلى المؤازرة، مشددًا على ضرورة القضاء على ما سماهم «الإرهابيين».
ثانيًا.. طوفان الأقصى وكتائب المقاومة:
لم يكن ما حدث في 7 أكتوبر الماضى مفاجأة لكل متابع لتطورات القضية الفلسطينية، التي كادت تذهب في غياهب النسيان بعد زيادة وتيرة التطبيع، والتى جعلت مجرم الحرب نتنياهو يتباهى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرب الاعتراف السعودى بإسرائيل وما يتبعه من مشروعات كبيرة، وتناسى تمامًا الشعب الفلسطينى، ولكنه للأسف نسى ما قاله القائد الراحل ياسر عرفات عن أهل فلسطين، الذين سماهم شعب الجبارين، فالفلسطينى يتمسك بقوة بأرضه، ولا يتنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف، ويكفيه ما حدث في الماضى من تهجير قسرى ومذابح بهدف الاستيلاء التدريجى على أرض فلسطين وتحقيق هدف اليهود من النيل إلى الفرات، ومن هنا كانت الصاعقة المنتظرة لتحويل أحلام نتنياهو إلى كابوس، والتى قامت بها حركة حماس والتى أحدثت زلزالًا رهيبًا لم تَذُقْه إسرائيل من بعد نصر أكتوبر 73، وكشفت عوراتها، وأيقظت بعض النائمين من العرب، الذين نسوا القضية، كما أيقظت ضمير العالم، الذي كان في غفلة، وعادت القضية لتصبح الأهم أمام العالم كله.. ولكن ماذا عن كتائب المقاومة؟.
في مؤتمر القمة العربية 1964 بالقاهرة، اتفقت الدول العربية على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية من أجل العمل على تحرير فلسطين، وفى عام 1974 طالبت المنظمة بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود الانتداب البريطانى، وفى عام 1993 اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، كما اعترفت إسرائيل بالمنظمة ممثلًا شرعيًّا للشعب الفلسطينى، وظهرت عدة فصائل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلى الغاشم، ومنها فتح، التي تبنت فكرة الحل السلمى ومبدأ المفاوضات والتسوية السلمية، وشاركت مع منظمة التحرير في مؤتمر مدريد عام 1991، أما حماس فتعود أصولها إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفى عام 1973 أسس أحمد ياسين المركز الإسلامى فرعًا لهذه الجماعة، وشجعت إسرائيل هذا الاتجاه بكل خبث لبث الشقاق مع منظمة فتح، وبالفعل، وللأسف، تجددت الصراعات بينهما منذ عدة سنوات، وانتهى الأمر بسيطرة حماس على غزة في 2007، واستمر الرئيس الفلسطينى محمود عباس في الضفة الغربية، ورفعت حماس الشعارات الإسلامية، ورفضت الاعتراف بإسرائيل، وفى عام 1991 غيّرت حماس اسم جهازها العسكرى إلى كتائب عزالدين القسام.. وظهرت معها فصائل عسكرية أخرى.
وبعد الطوفان اعترض البعض على تصرف حماس المنفرد نتيجة الخسائر الهائلة الناجمة عنه من الآلاف من القتلى والأطفال الفلسطينيين في مجزرة وحشية، مع تدمير شبه كامل للبنية التحتية والمساكن ومنع الطعام والماء والدواء على المدنيين العزل، وهذا اعتراض مفهوم ومسبب، ولكن الحقيقة المرة التي لا يمكن إنكارها أن هذا الطوفان هو الذي أعاد الحياة إلى القضية الفلسطينية، ولولاه لكانت القضية قد دخلت إلى غياهب النسيان، ولكنى أتمنى ألا تتكرر هذه الهجمات غير المدروسة جيدًا، والتى ينتج عنها إزهاق أرواح الآلاف من أهل فلسطين، مع التركيز على الأطفال والنساء بغير مردود حقيقى على مستقبل فلسطين الجريحة، وأناشد أهل فلسطين الجبارين ومعهم أعضاء كل جماعات المقاومة الوطنية بالتجمع تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية، بعد انتخاب مجموعة جديدة قادرة على التعامل مع المعطيات العالمية من أجل الحصول على حقهم المسلوب بالسلاح وبالتفاوض، كما أناشد أعضاء حماس المناضلين ألّا ينساقوا وراء خدعة الحرب الدينية، التي تشجعها إسرائيل، التي غيرت مؤخرًا اسم عمليتها العسكرية القذرة إلى اسم (حرب سمحات التوراة) أو (حرب التكوين) لاكتساب المزيد من العطف اليهودى.. إننا إزاء قضية سرقة وطن واضحة الملامح وليست أبدًا حربًا دينية، وفى تصورى أن ما حدث هذه المرة هو بداية النهاية لهذا الكيان الغاصب، ولو بعد حين، وسوف تعود الدولة الفلسطينية، التي ضحى الآلاف بأرواحهم من أجلها، وإن غدًا لناظره قريب.
ثالثًا.. تحية واجبة:
أرى أنه يجب توجيه الشكر والتقدير والامتنان إلى مَن أسهموا في إبراز الصورة الحقيقية لما حدث ويحدث في المجزرة الإسرائيلية، التي فاقت الحدود في الإجرام والتوحش والخِسّة والحيوانية، والتى حاولت دولة الاحتلال أن تغطيها بالكذب والتضليل أمام العالم.. وأذكر منهم اللواء د. سمير فرج ود. سمير غطاس والإعلامى القدير طارق نور، الذين بذلوا جهودًا جبارة من أجل توضيح الحقيقة أمام العالم أجمع، جزاهم الله كل خير.