بقلم::صلاح الغزالي حرب
أُعلنت أخيرًا نتيجة امتحانات الثانوية العامة، والتى تقدم إليها ما يقرب من 650 ألف طالب وطالبة، وبدأ الناجحون رحلة البحث عن طريق المستقبل باختيار الكلية أو المعهد اعتمادًا على المجموع الذي حصلوا عليه في هذا الامتحان، ونصيحتى لهم ولأولياء أمورهم أن يكون الفيصل في الاختيار هو قدرات الطالب وميوله الخاصة واهتماماته بغض النظر عن المجموع، فمن خبرتى الشخصية، وكيلًا سابقًا لكلية طب القاهرة، أنصح من كل قلبى بعدم الالتفات إلى أكذوبة عبارة كليات القمة، فكلية القمة لك يا بنى هي التي تناسب ميولك وقدراتك، فقد لاحظت في بداية عملى رسوب عدد ليس بقليل من أبنائى الحاصلين على أعلى الدرجات في الثانوية العامة في السنوات الأولى في كلية الطب، ما شجعنى على مقابلة أولياء أمورهم ومساعدتهم في التحويل إلى الكلية المناسبة، وقد صارحنى بعضهم بأنهم أجبروا أولادهم على التقدم إلى كلية الطب إما لرغبتهم هم الشخصية أو نتيجة للمجموع الكبير في الثانوية.. ويتميز هذا العام بكثرة عدد الجامعات والكليات، التي قد تساعد بالفعل في عملية الاختيار، فهناك 27 جامعة حكومية و25 جامعة خاصة و21 جامعة أهلية و6 جامعات باتفاقات دولية و4 أفرع لجامعات أجنبية و10 جامعات تكنولوجية، بالإضافة إلى جامعة العلوم والتكنولوجيا بمدينة زويل وجامعة النيل والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحرى والجامعة العربية المفتوحة، كما زاد عدد الكليات ووصل إلى 756 كلية، منها 100 حكومية و132 خاصة، وتم إدخال 289 برنامجًا خاصًّا، أبرزها الهندسة النووية والفيزياء الحيوية والتحكم الآلى والنانو تكنولوجى والنمذجة والذكاء الاصطناعى.. وهذا أمر طيب بكل تأكيد، ولكنى من ناحية أخرى لاحظت تسارعًا غير مفهوم في إنشاء الجامعات الخاصة وما تسمى «الأهلية»، في حين أن الجامعات الحكومية تستوعب عادة حوالى 80% من إجمالى الطلاب، ومعظمهم في الكليات النظرية (الآداب والحقوق والتجارة)، وقد تحدث الرئيس السيسى في أحد اللقاءات عن الصعاب التي يتحملها الكثير من هؤلاء الخريجين نتيجة اللا تعليم واللا خبرة مع وجود ورقة الشهادة العليا معهم.. وإذا انتقلنا إلى كليات الطب والهندسة بأنواعها فسوف نجد صعوبات كثيرة في العملية التعليمية، التي أصبحت غالية التكلفة للحصول على المستوى اللائق نتيجة التطورات السريعة والمذهلة في هذا المجال، وحيث إن الدستور المصرى نص على تخصيص 3% من الناتج القومى الإجمالى للصحة و4% للتعليم و2% للتعليم العالى و1% للبحث العلمى، كما تنص المادة 19 على أن التعليم إلزامى حتى نهاية المرحلة الثانوية أوما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة، وفى المادة 21 تكفل الدولة استقلال الجامعات وتوفير التعليم الجامعى وفقًا لمعايير الجودة العالمية، وتكفل مجانيته في جامعات الدولة ومعاهدها، إلا أن ذلك الأمر يستحيل تطبيقه على أرض الواقع، ومن هنا لجأت جامعاتنا إلى ما يمكن تسميته «التعليم الموازى بمواصفات عالمية» من أجل تحسين جودة النظام التعليمى، كما تقول وزارة التعليم العالى، وهو بالطبع تعليم بأجر وصل إلى 100 ألف جنيه سنويًّا في طب القاهرة!، كما بدأت تتزايد أعداد الطلاب الوافدين إلى الكلية، وبمجاميع متدنية إذا قورنت بمجاميع الطلبة المصريين، ما أثر بالفعل على عدد الطلاب المصريين الراغبين في التحويل إلى طب القاهرة، والأهم هو مستوى الخريج الوافد الذي لا يليق بسمعة قلعة الطب «قصر العينى»، ومع ذلك، فقد فوجئت بالوزير المسؤول يقول، في حديث مع الإعلامى المعروف عمرو أديب، إن صناعة التعليم والسياحة التعليمية!!، تساعد على النمو الاقتصادى وتساعد في الدخل القومى، وهو ما يسمى الاقتصاد المبنى على المعرفة والتعليم وكذا الدبلوماسية الناعمة!!، ولا تعليق.. وبالتوازى، زادت أعداد الجامعات الخاصة الهادفة للربح، والتى كنت قد طالبت في بداية ظهورها بأنه يجب أن يُشترط للموافقة عليها أن تكون في خدمة المحافظة التي تنشأ فيها، وأن ينعكس وجودها على تحسين حياة مواطنيها، مع حتمية وجود مستشفى تعليمى لكليات الطب وعدد كافٍ من أعضاء هيئة التدريس، وللأسف الشديد تغلبت شهوة المال على المعايير العلمية في الكثير منها، فعلى سبيل المثال فإن بعض هذه الجامعات الخاصة كانت ترسل طلبتها للتدريب الإكلينيكى والامتحان في طب القاهرة!.
ثم تفتق ذهن الدولة مؤخرًا عن طريقة أخرى للتعليم الموازى، فكانت الجامعات (الأهلية).. ولهذه الجامعات تاريخ في مصر يعود إلى بداية القرن العشرين عندما دعا بعض قادة السياسيين والمجتمع مع بعض أعضاء الأسرة العلوية إلى إنشاء جامعة مصرية جديدة، وتسابق المصريون لتمويلها، ولعدم كفاية الموارد تحولت إلى جامعة عامة تمولها الحكومة في عام 1925، مع احتفاظها باستقلالها الجامعى (جامعة القاهرة)، والحقيقة أنه لا توجد حاليًا جامعات أهلية حقيقية مصرية إلا جامعة النيل وجامعة زويل، وما عدا ذلك فهى جامعات حكومية بمصروفات لأن تعريف الجامعة الأهلية أنها جامعات أنشأتها الجمعيات الأهلية والمجتمع الأهلى، وهى لا تهدف للربح، حيث تخصص مصروفات الطلاب لعملية التشغيل فقط، وتشمل رواتب أعضاء هيئة التدريس والمعامل والصيانة والجودة والشراكات الدولية وغيرها، ولكن الجامعات شبه الأهلية التي نتحدث عنها أسهمت الدولة فيها بحوالى 30 مليار جنيه!، على سبيل الاستثمار الذي سيتم استرجاعه في 25 عامًا، ويمكن القول إن الفائدة الوحيدة لها هي منافسة الجامعات الخاصة بما يؤدى إلى بعض التخفيض في مصاريف «الخاصة».. ولذلك أناشد الدولة عدم التسرع في هذا المجال، الذي لن يفيد إلا قلة محدودة من المصريين، وعلينا أن نفكر في إيجاد أنظمة مؤسَّسية لتمويل الطلاب غير القادرين- وهم الأغلبية- وكذلك تنفيذ توجيهات الرئيس بدعم الدولة لنسبة من المصاريف.. كما أن هذه الجامعات ستشكل عبئًا كبيرًا على أساتذة الجامعات الحكومية، الذين تقع على أكتافهم مهمة التدريس والتدريب، والأهم من ذلك كله فإن هذا التوجه المتسارع قد يهدد السلم الاجتماعى في مصر.. وأخص بالذكر كليات الطب، فمن غير المعقول ولا المقبول أن تكون هناك تفرقة في مستوى التعليم والتدريب الطبى بين القادر ماديًّا وغير القادر.
وماذا عن الجامعات الحكومية، التي تتحمل العبء الأكبر في التعليم العالى؟. هناك مشاكل كثيرة تحدث عنها د. جابر نصار، الرئيس السابق لجامعة القاهرة، ومنها أن 90% من الميزانية تُصرف على الرواتب والمكافآت أيًّا كان اسمها، والتى كثيرًا ما تُصرف بغير ضابط ولا رابط!، كما أن الدولة انسحبت من تمويل التعليم الجامعى كما ينص الدستور، وهناك ترهل إدارى كبير، بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة جدًّا التي يقذف بها مكتب التنسيق إلى رحم الجامعات سنويًّا بغير رحمة ولا تقدير لإمكانات هذه الجامعات.
ننتقل الآن إلى السؤال الأهم.. وما الحل؟.
1) يجب ألّا ننسى أو نتناسى أن التعليم حق لكل مواطن مهما كانت مقدرته المالية، وعلينا أن نطبق ما نص عليه الدستور في هذا المجال.
2) الجامعات الحكومية لها الأولوية المطلقة باعتبارها الحاضن الأكبر لشبابنا، مع تغيير مفهوم المجانية كى تقتصر فقط على الناجحين والمتفوقين، وعلى الراسب أن يتكفل بمصاريف المادة التي يحددها القسم العلمى المختص، مع ضرورة إلغاء مهزلة التعليم الطبى المتميز في كليات الطب، فهى وصمة عار في جبين المهنة.
3) لابد من إعادة النظر في وضع مكتب التنسيق، وفتح المجال أمام امتحانات القبول والقدرات في الكثير من الكليات، وفى مقدمتها الكليات الطبية.
4) مرحبًا بالجامعات التكنولوجية، مع زيادة الاهتمام بالتعليم الفنى من المرحلة الثانوية، ووضع مميزات ومحفزات لذلك التعليم، مع إعطاء شهادات عليا للخريجين.
5) إعادة النظر في أعداد المقبولين بالجامعة، حيث يجب أن يكون ذلك فقط مسؤولية كل جامعة بحسب إمكاناتها، والتوقف مؤقتًا عن إنشاء كليات طب أسنان وصيدلة جديدة حتى تراجع النقابتان الموقف على أرض الواقع.
ويبقى أخيرًا أن أهنئ الوزير الجديد للتعليم العالى، وأتمنى أن يبدأ عمله بما عجز عنه الوزير السابق من تفعيل استقلال الجامعات، وخاصة فيما يخص اختيار القيادات الجامعية، والذى يجب أن يكون مسؤولية أصحاب الشأن، وهم أعضاء هيئة التدريس، وأن يسرع بالإعلان عن العميد الجديد لطب القاهرة وكذا الرئيس الجديد لجامعة القاهرة، والذى طال انتظاره بغير سبب مفهوم.. مع تمنياتى له بالتوفيق.