بقلم:صلاح الغزالي حرب
تعيش الأمة الإسلامية فى هذه المرحلة حالة انتكاسة فى كافة ميادين الحياة، مما أفقدها الكثير من منهجيتها وتوقفت عن أداء رسالتها، وفى مصر استطاعت جماعة الإخوان الإرهابية بلجانها الإلكترونية التى تفشت فى وسائل التواصل الاجتماعى، بالإضافة إلى أعضاء التيار السلفى المتشدد أن تتغلغل إلى عقول الكثيرين مستغلة حالة الأمية الثقافية والدينية والانجذاب الدينى الفطرى لدى المصريين، مما أدى إلى سيطرة الإسلام الشكلى على الكثيرين، والذى أستطيع أن أقول إنه من أهم عوامل الضعف فى مجتمعنا، وقد طالب الرئيس السيسى، أكثر من مرة، بضرورة تجديد الخطاب الدينى واستجابت مؤسسة الأزهر بتعديل بعض المناهج الدراسية وغيرها من الإجراءات بالتعاون مع وزارة الأوقاف، لكن من المؤكد أن هذا لم يكن كافيا على الإطلاق، وكان من الضرورى أن يكون الإعلام منارة التجديد لهذا الخطاب، خاصة مع ظهور مجموعة من علماء الأزهر المستنيرين، وفى مقدمتهم أ. د سعد الدين الهلالى وتلاه آخرون من أجل كشف جوهر الإسلام الحقيقى.. وبكل أسف نظرت إلى الخريطة الدينية لشهر رمضان الحالى فسعدت بوجود شيخ الأزهر والمفتى والدكتور على جمعة مع بعض الدعاة الآخرين (كثير منهم لم نعرف تخصصه وسبب اختياره لهذه المهمة الصعبة والذين تفرغوا للإجابة عن أسئلة المشاهدين والتى كانت فى معظمها تعكس مدى تفشى الجهل الدينى والخرافات وتعاظم الإسلام الشكلى عندهم).. لكنى تعجبت وأسفت لعدم وجود د. سعد الهلالى فى هذا الشهر، وهو الذى أخذ على عاتقه منذ سنوات مهمة المساهمة فى تجديد الخطاب الدينى، بعد أن سادت الأفكار التواكلية والخرافية والمتشددة وغير الموثقة والمناهضة للسلم الاجتماعى فى مصر، وهو أمر يحتاج لتوضيح، وأتمنى ألا تكون الأسباب تتعلق باختلاف الآراء.. وسوف أتناول اليوم بعض المعلومات عن هذا العالم الكبير.
هو أستاذ الفقه المقارن فى كلية الشريعة والقانون بالأزهر، وكان رئيسا لقسم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة الكويت (وكلمة الفقه تعنى الفهم وعند الفقهاء تعنى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها)، وقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى مجال العلوم القانونية والاجتماعية فى مصر عام 2007 وجائزة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية فى مجال الفقه الطبى بالكويت عام 2006 كما حصل على عشرات من شهادات التقدير والدروع التذكارية من جامعات الأزهر والكويت والعين بالإمارات والرئاسة العامة لتعليم البنات بالسعودية وغيرها، كما أن له عشرات المؤلفات، ومنها موسوعة فقه أحكام المخدرات وموسوعة فقه الجنائز والجانب الفقهى والتشريعى للاستنساخ والدولة الإنسانية فى الإسلام وغيرها الكثير.. وقد شدنى إلى سماعه وتعقبه منذ سنوات طريقة حديثه الموثقة بالمراجع الصحيحة وذاكرته القوية وجرأته فى عرض كل الآراء الفقهية فى كل العصور، ثم ترك المستمع ليعمل عقله لاختيار ما يقبله وتذكرت قول رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، خاصة وهو أستاذ فى الفقه المقارن الذى يعنى ببيان آراء العلماء وأدلتهم فى المسألة وتحديد محل النزاع أو الخلاف مع المناقشة والترجيح، فهناك فروق كثيرة بين المذاهب الأربعة ترجع إلى تعدد الأفهام والآراء، فالناس ليسوا سواء فى أفهامهم ومداركهم، فالصحابة، رضى الله عنهم، على سبيل المثال تعددت آراؤهم فى فهم مراد الرسول الكريم حينما أمرهم بعد غزوة الأحزاب بالتوجه إلى بنى قريظة.. وعن المذاهب الأربعة فهى كلها بالتأكيد تريد الحق فهى مذاهب اتباع الحق (القرآن والسنة النبوية)، وهناك مذاهب أخرى كثيرة، لكنها فى نهاية المطاف آراء وأفكار نمت فى زمن وبيئة وظروف خاصة بأصحابها، ولذلك أتصور أن ذلك قد يكون أحد أسباب حديث رسولنا الكريم عن التجديد كل مائة عام..
وفى معرض الكتاب الأخير تحدث د. الهلالى عن كتابه الجديد عن أهمية ومعنى وحكمة الطهور فى الإسلام، وقال إن المسلمين أمروا أن يتطهروا، لكن قد لا يعلم الكثيرون أن من مبطلات الوضوء مثلا الكلام القبيح أو الشتيمة، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين!، وقال إنه يحرص على عرض كل الآراء الفقهية والتى تم إخفاؤها من قِبل بعض المتخصصين!، فالرأى الفقهى يقابله رأى آخر، وهذه هى المرونة فى الإسلام، وعن الخطاب الدينى قال إنه أصبح اليوم فى صورة فتاوى من بعض من يخرجون على الهواء فى البرامج التليفزيونية ويعبرون عن قناعاتهم الشخصية وهم يعلمون بالتأكيد أن الفقه حمّال أوجه، وطالب أهل العلم بأن يعملوا فى إطار التيسير والرحمة.. ومن أقواله إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والحال والمكان كما يجب أن تخدم المجتمع وليس أن ترضى المفتى له.. وفى حديثه عن الأضحية صرح بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يمنع الأضحية بالطيور (إذا ما ضاقت الحالة المالية) فطالما لا يوجد نهى فالأصل هو الإباحة، موضحا أن هذا هو قول سيدنا بلال بن أبى رباح، كما أنه رأى ابن حزم الظاهرى الذى يقر به الأزهر ويدرس مناهجه.
وعن الجماعات الدينية المتطرفة قال د. سعد الهلالى إنها أساءت إلى الدين فى أنحاء الدنيا، حيث ترى أن الشريعة الإسلامية يجب تطبيقها بحسب فهمهم هم للدين!، وكثيرا ما يكون هذا الفهم عرقيا أو سياسيا وهو ما نراه فى السودان وشمال العراق وجنوب تركيا.. فشعائر الإسلام ثابتة لا تتغير وليس من حق أى إنسان أن يغيرها، فهى التزام شخصى وليست له علاقة بالآخرين.. وقال إن التعددية الفقهية والاختلاف هى ميزة للدين الحق والإسلام رسالة استوعبت جميع الأديان السابقة، كما أن فقه الدين قائم على التعددية وليس الأحادية لأنها اجتهادات بشرية فى المسألة الواحدة.. ولكن تظل العقيدة والإيمان مرجعهما لله وحده سبحانه.
وعن فرضية الحجاب قال د. الهلالى إن الآية الكريمة (يدنين عليهن من جلابيبهن) ليست لها علاقة بالرأس فالجلباب يلبس عند الرقبة إلى أسفل، كما أن حديث الوجه والكفين فقد رواه أبوداود الذى مات عام 275 هجرية، فى حين أن رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام، كان قد مات فى عام 11 هجرية أى أن هذا الحديث لم يظهر إلا بعد وفاته بـ240 عاما!، وهذا يعنى أن الحجاب ليس فرض عين لأن هذا يتطلب نصا دينيا يدل عليه، لكنه مجرد استنباط فهو فرض فقهى وليس شرعيا.. وتعقيبا على هذا الرأى للدكتور الهلالى أضيف ما ذكره والدى الراحل العظيم الغزالى حرب فى كتابه القيم (استقلال المرأة فى الإسلام) على لسان العالم الجليل الراحل الشيخ أحمد حسن الباقورى (إن كشف المرأة رأسها أو تقصير ثيابها- وإن كان يجافى الكمال- لا يبلغ أن يكون كبيرة من الكبائر أو موبقة من الموبقات وغاية ما يوصف به ذلك فى عرف أهل الشرع أنه صغيرة من الصغائر أو سيئة من السيئات، وقد أجمع المسلمون على أن اجتناب الكبائر والموبقات يكفر الصغائر والسيئات كما جاء فى قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) وقوله (إن الحسنات يذهبن السيئات)، وقوله سبحانه (ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم)، وقد عقب والدى عليه فى الكتاب بقوله: إن الإسلام سلوك رشيد يستمد رشده من التجافى عن الغلو والإيغال إلى القصد والاعتدال (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) والرأى الذى أوثره أن نيسر سبل التدين للمتدينين والمتدينات ولأن يرخص للناس فيتدينون خيرا من أن يشدد عليهم فينصرفون عن الدين.
(ويبقى أن نعلم أن والدى يرحمه الله كان من علماء الأزهر ومن كبار رجال التربية والتعليم وكان أول العلماء الناجحين فى شهادة العالمية مع إجازة التدريس متفوقا على جميع العلماء الأزهريين من علماء كليات الشريعة وأصول الدين واللغة العربية فى عام 1948، وقد وصفت الأستاذة الكبيرة أمينة السعيد كتابه بأنه أوفى وأجمع وأدق كتاب فى موضوعه ظهر عن المرأة).
خلاصة الأمر: مع تقديرى الكبير للجهد المشكور لمسؤولى الإعلام فى رمضان أناشدهم أن يكون محور الخطاب الدينى فى الإعلام بصفة عامة هو تجديد هذا الخطاب، وهو ما نادى به الرئيس السيسى أكثر من مرة، وهناك، والحمد لله، الكثير من علماء الدين المستنيرين لهذا الهدف النبيل.