بعد أن استتب الأمن فى ربوع البلاد ودارت عجلة العمران فى كل أرجاء مصر وبعد أن أطلق رئيس الدولة الدعوة إلى حوار سياسى شامل، أرى أننا فى حاجة ماسة لحسم الكثير من القضايا والموضوعات الحيوية التى تعاملت معها الدولة على مدى سنوات طويلة بسياسة مسك العصا من المنتصف والتأجيل والتسويف، وهو ما لا يجب أن نراه فى الجمهورية الجديدة.. وإليكم بعض الأمثلة للأسئلة المعلقة:
السؤال الأول.. هل مصر دولة مدنية أم دينية؟
إذا رجعنا إلى الدستور المصرى وتحديدًا المادة الأولى منه نجد أنه ينص على أن جمهورية مصر العربية نظامها جمهورى ديمقراطى، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون (وهو ما يعنى بكل وضوح أنها دولة مدنية وليست دينية ولا عسكرية) وتقوم فكرة هذه الدولة على المساواة فى الحقوق والواجبات واحترام المبادئ الأخلاقية.. ورغم هذا الوضوح، فإن التيارات الدينية الموجهة سياسيًا بقيادة جماعة الإخوان المنحلة، حاولت أن تنفرد بالسلطة والهيمنة على مؤسسات الدولة وتأسيس دولة دينية لإدارة شؤون الدنيا بسلطة الدين أو بتوظيفه كستار يخدم السلطة.
فى حين أن هذا الخلط بين شؤون الدنيا وشؤون الدين لم تعرفه الحضارة الإسلامية فى أوج تألقها، بل كان ذلك شائعًا فى عصور الظلام الأوروبية ولم تنهض الحضارة الأوروبية إلا بعد أن ثارت على هيمنة الدين على شؤون الدنيا.. ومن ناحية أخرى فقد جاء فى المادة 53 من الدستور أن المواطنين لدى القانون سواء وهو متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة ولا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى أو الانتماء السياسى أو الجغرافى أو لأى سبب آخر.. التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون.
من هذا كله، يمكن القول إن مصر دولة مدنية ولا يجب أن يكون هناك خلط بين الدين والسياسة، فالدين ثابت والسياسة متقلبة والدين مقدس والسياسة مدنسة وبراجماتية وميكيافيلية، فلا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين، كما أن الإسلام دين وليس دولة، لأن الإسلام جاء للقضاء على الدولة الدينية.
كما أن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، الذى لقب بالصادق الأمين قبل البعثة، كانت تصرفاته بعد بعثته تتميز بالحكمة والحنكة السياسية التى وضحت عند إعلان صلح الحديبية وعند الاستماع لأصحابه فى الكثير من القضايا، ومنها غزوة الخندق وغيرها، ولم يظهر لفظ الدولة إلا عند ظهور الدولة الأموية والعباسية وغيرهما والتى تشير إلى الأسرة الحاكمة.
وكذلك فإنه من المعروف أن الإسلام لا يعرف رجل الدين، فهذا مصطلح غربى وإنما هناك علماء بشؤون الإسلام، وهذا أيضًا ليس حكرًا على أحد، بل يمكن أن يكتسبه أى مسلم مجتهد فى فهم دينه، كما أنهم غير معصومين من الخطأ، والعلاقة فى الإسلام بين العبد وربه علاقة مباشرة (وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب)..
من أجل ذلك، أطالب بتفعيل مبدأ مدنية الدولة على كافة المستويات وبقوة القانون، فلا داعى لخانة الديانة فى كل بيانات المواطن المصرى، كما يجب إعادة تفعيل العمل بالقانون الذى يحظر وجود إشارات أو علامات دينية على جميع السيارات، كما أطالب بمنع ما تسمى الجلسات العرفية فيما يخص إهانة أحد المواطنين بسبب دينه، وإنما يترك هذا للقانون الذى يجب أن يكون حازما فى كل الحوادث المشابهة التى انتشرت مؤخرًا بسبب التطرف السلفى المقيت، فنحن كمسلمين جميعًا سلفيون بمعنى أننا نحترم كل السلف الصالح، ولكن لا نقدسه، ونحن اليوم فى حاجة ماسة إلى تحجيم هذا التعصب بسيف القانون وعدم الاعتراف بأى حزب يقوم على أساس دينى مسلمًا كان أم مسيحيًا..
السؤال الثانى.. متى يظهر إلى النور قانون الأحوال الشخصية؟
فى فبراير من عام 2021، أحال مجلس الوزراء مقترحا متكاملا لقانون الأحوال الشخصية، تسبب تسريبه إلى وسائل الإعلام فى عاصفة من الانتقادات، ما أدى إلى سحب مشروع القانون، ووعد الرئيس السيسى بأن يكون القانون الجديد متوازنًا ويحمى الأسرة المصرية، وقد صرح رئيس الأغلبية فى البرلمان بأن هذا المشروع المقترح به 37 مادة يشوبها عدم الدستورية.. والمعروف أن نسبة الطلاق فى مصر الآن أصبحت تزيد على 40%، كما أن المرأة المطلقة مطلوب منها هى إثبات دخل مطلقها لتحديد النفقة، بالإضافة إلى ترك الولاية التعليمية إلى الأب أو أقاربه الذكور! وغيرها من المشكلات التى أحالت حياة المطلقة إلى جحيم مع التضرر البالغ الواقع عليها وعلى الأطفال..
وقد أعلنت د. مايا مرسى، رئيسة المجلس القومى للمرأة، أن المجلس قد انتهى مؤخرا من إعداد مجموعة من المحددات والمتطلبات التى يحرص على تضمينها وتحقيقها من أجل خروج قانون جديد للأحوال االشخصية، يتسم بالعدالة والاتزان والموضوعية، ما يؤدى إلى استقرار الأسرة المصرية وحماية الوطن والأجيال القادمة.
ومن بين هذه المتطلبات الأولوية لمراعاة المصلحة الفضلى للطفل فيما يتخذ حياله من إجراءات قانونية أو إدارية، والتأكيد على الأهلية القانونية للمرأة مع حماية الحقوق والحريات المقررة دستوريًا لها وضمان حصولها عليها وتوثيق الزواج والطلاق قانونيًا لحسم المشاكل والحقوق المترتبة عليه للزوجين ومعالجة الإشكاليات والجوانب الإجرائية فى قضايا الأسرة.
وكذلك النص على الحق فى الكد والسعاية والتأكيد على الذمة المالية للزوجين، مع المطالبة بأن تكون السن القانونية للزواج للرجل والمرأة هو 18 عامًا، وإلغاء أحكام الطاعة، والحفاظ على مادة الخلع بنصها الحالى فى القانون، واشتراط الزوجة عدم الزواج بأخرى فى عقد الزواج الذى يعتبر قرينة على وقوع الضرر ما لم تكن تعلم به ورضيت بإقرارها أو بانقضاء أجل محدد، وتقضى لها المحكمة بالتطليق طلقة بائنة..
من أجل ذلك كله، أطالب الحكومة بسرعة إصدار هذا القانون، لكى تتوقف المهازل والمآسى التى تعيشها الأسرة المصرية، كما أوجه النداء إلى المؤسسة الدينية الإسلامية فى مصر بأن تتذكر وتذكّر الجميع بأن الله سبحانه وتعالى قد أراد من خلال آياته أن تكون الأسرة فى الإسلام أسرة هادئة متماسكة قوية قائمة على المحبة والمودة والاحترام المتبادل والحفاظ على الحقوق، ويكفينا هنا قوله تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.
إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، فنحن خلقنا جميعًا من نفس واحدة، ولا أفضلية لأحد على الآخر، كما أن الإسلام السمح أرسى مبدأً مهمًا وهو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، فمتى نتفكر كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؟ ولماذا يتمسك البعض بمفاهيم قديمة وبالية وتسىء إلى الإسلام وخاصة ممن ينتمون إلى التيار السلفى المتشدد؟..
قبل أن نتحاور ولكى ينجح الحوار الوطنى، ينبغى أن تجيب الدولة إجابة قاطعة وبغير تردد عن هذه الأسئلة.. وغيرها من أسئلة مشابهة.