بقلم - صلاح الغزالي حرب
تحت عنوان: (هل نستحق الفقر؟)، بعث لى الصديق العزيز أ. د. أسامة حمدى، الأستاذ بجامعة هارفارد، هذا المقال: (حسب كل المقاييس لا يمكن لمصر أن تكون دولة فقيرة!، فدولة بها 145 منطقة أثرية مسجلة لدى اليونسكو، أى ثلاثة أضعاف أكثر دول العالم آثارًا، وبها أعرق حضارات العالم، وأميزها، وتملك 3200 كيلومتر من الشواطئ الدافئة على بحرين، كان يجب أن تكون الأولى على مستوى العالم سياحيًّا، وبجدارة، لا أن تقبع فى المركز 34- 36 بعدد سياح لا يتجاوز 15 مليون سائح فقط.. أى أقل من زوار فيتنام أو جزيرة ماكاو!، ودولة بها 106 ملايين مواطن، منهم 60% تحت سن الثلاثين، أى لديها طاقة بشرية وإنتاجية مذهلة لم تستغلها حتى الآن الاستغلال الأمثل فى الصناعة والتصدير مثلما فعلت فيتنام والفلبين، وكل منهما لها نفس تعداد السكان، وكل منهما بلا أدنى موارد تُذكر، فالأولى تصدر ما قيمته 371 مليار دولار سنويًّا، وتصدر الثانية ما قيمته 103 مليارات دولار، فى حين أننا نصدر ما قيمته 54 مليار دولار فقط، ومعظمها صادرات غير صناعية!.
دولة فى موقع جغرافى عبقرى بين قارات ثلاث، ولم تصبح يومًا مركزًا للطيران العالمى، وتترك المهمة لدول مجاورة ليكون عائد إحدى تلك الدول الاقتصادى من الطيران 53 مليار دولار سنويًّا!، ودولة يمر من خلال قناتها نحو ثلث حاويات العالم، ولا تملك 1% من الحاويات التى تحمل عَلَم بنما، التى تُقدر بنحو 8000 سفينة حاويات لقناة بنما، فدخل قناتهم من رسوم العبور 5 مليارات دولار سنويًّا، ولا يشكل أكثر من 3% من الدخل القومى.. أما معظم الدخل القومى فمن التفريغ والشحن بأسطولها، الذى هو ضعف الأسطول التجارى الأمريكى!، ودولة بها إنتاج واحتياطى كبير من الغاز، ومازالت الكهرباء تنقطع لمواطنيها لعدم توافر الغاز لمحطات توليد الكهرباء!، ودولة عندها أخصب تربة زراعية، ولديها مناخ معتدل طوال السنة، وتستورد القمح والذرة والسكر والزيوت، ولا تكفى نفسها.. ودولة بها ثروة معدنية كبيرة، وشمس طوال السنة تقريبًا، وجبال من الرخام الخام، ورمال هى من الأعلى عالميًّا فى نسبة السليكا، ولكنها تستورد أكثر مما تصدر، ولا تصنع معظم ما تريده!، وهنا نتساءل: لماذا نحن كذلك؟، فتُجيبنا الأرقام التى لا تخطئ.. فمصر ذات أداء متواضع من حيث البنية التحتية المعرفية، حيث تحتل المرتبة الـ90 من بين 133 دولة فى فهرس المعرفة العالمى، وهو ما يعنى أننا لا ندرك حتى الآن أهمية التعليم، ولم نُولِّه ما يستحق، ومصر فى المرتبة الـ24 من بين 28 دولة فى معدل التنمية البشرية العالية، كما أنها انحدرت من المرتبة الـ46 فى معدل الفساد عام 1996 إلى المرتبة الـ108 من بين 180 دولة فى عام 2023، وإن كانت أفضل بكثير من ترتيبها (130) فى عام 2022.
لكل هذه الأسباب، أصبحت مصر حقًّا فقيرة ومدينة، وكان من الأجدر أن تكون من أغنى دول العالم، بل أسعدها، بالاهتمام بالتعليم ومحاربة الفساد والاستثمار الحقيقى والجاد فى الإنسان بتنميته البشرية وتدريبه والاستفادة من ثرواتها وموقعها وإمكاناتها البشرية).
انتهت رسالة د. أسامة حمدى، ثم وصلتنى منه رسالة تكميلية فى نفس الموضوع عن أهمية التعليم وتحدى المستقبل، يقول فيها: (لم تتقدم دولة زرتها فى العالم إلا بالاهتمام بالتعليم الأولى الحكومى والمجانى.. رأيت ذلك فى أمريكا وفى كل أوروبا وجميع دول جنوب شرق آسيا.. 12 سنة من التعليم الأولى تتكفل بها الدولة بالكامل من حصيلة الضرائب التى تجمعها، دون تحميل جنيه واحد على عاتق أسرة الطالب، وتدفع الدولة للمدرسين أعلى الرواتب فى الكادر الحكومى، وتتنافس المدن فيما بينها على جودة المدارس التى بها جميع الأنشطة الرياضية والفنية، لا يوجد طالب غائب بلا عذر، ولا وجود للدروس الخصوصية، ولكن توجد دروس تقوية مجانية داخل المدارس للمتأخرين والمتعثرين وذوى الاحتياجات الخاصة، ولا يدفع الطالب سوى مصاريفه الجامعية، ويكون مجانيًّا للمتفوقين فى التعليم الأولى، ولقد وجدت هذه الدول أن الاستثمار فى التعليم يحقق أعلى عائد اقتصادى، ولذلك فقد نصحت منظمة اليونسكو دول العالم أن تستثمر 4- 6% من الناتج القومى لها فى التعليم، وبينما يصرف الاتحاد الأوروبى 5.13% من الناتج القومى، توجد 36 دولة فاقت معدل 6%، ومن بينها الولايات المتحدة والسعودية وتونس، كما أن نمور آسيا قد وصلت إلى ما هى فيه بالاستثمار السخى فى التعليم، ونتذكر أن مصر قد وصلت إلى ذروة التعليم الحكومى المجانى، وبجودة عالية، فى الفترة من عام 1952- 1974، ولكن ومع الزيادة الكبيرة فى عدد السكان والأزمات الاقتصادية المتتالية منذ منتصف السبعينيات، تراجع الإنفاق على التعليم بشدة، وأصبح ذلك يشكل خطرًا على مستقبلنا كدولة، وانتشرت الدروس الخصوصية التى أرهقت ميزانية الأسرة، ثم بزغت ظاهرة الطبقية التعليمية فى صورة المدارس الخاصة ذات الرسوم الباهظة، وأصبح التعليم الأولى الخاص- فى غالبيته- تجارة مربحة لرجال الأعمال.. نحن فى حاجة ماسّة لثورة تصحيحية فى استراتيجية التعليم تتضمن تعليمًا أوليًّا حكوميًّا ومجانيًّا صارمًا وقويًّا، وأن ننفق عليه مباشرة من أموال الضرائب كأولوية قصوى، وبالفعل فقد رفعت ميزانية التعليم هذا العام من 591 مليار جنيه إلى 858 مليارًا بزيادة تصل إلى 45%، وهو تطور مهم، فالتعليم هو أمن مصر القومى فى المستقبل، ومجانيته وجودته ستخففان كثيرًا من الأعباء المثقلة على عاتق المواطن المصرى).
انتهت الرسالة الثانية للدكتور أسامة حمدى، الذى أشكره وأقدره بشدة على اهتمامه البالغ بالشأن المصرى وإسهاماته من أجل مستقبل أفضل لمصر، وأتمنى أن تصل هاتان الرسالتان إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب لدراستهما والاستفادة منهما.. وجدير بالذكر أن هناك الكثير من المصريين العاملين والمقيمين فى الخارج، الذين لديهم خبرات عالية وأفكار مدروسة فى كل مناحى العلم، ولكنهم لا يجدون آذانًا صاغية سوى فى بعض المؤتمرات، التى تعقدها وزارة الهجرة بغير مردود عملى على أرض الواقع.. وأتذكر هنا زميل الدراسة بكلية طب قصر العينى، وهو أ. د. سامح مرقس، الذى سافر إلى لندن بعد تخرجه فى القاهرة، وأصبح أستاذًا مرموقًا للأشعة فى جامعة شيفيلد، وقد تابعت مقالاته فى الصحف المصرية فى مجال الرعاية الصحية، كما علمت أنه التقى منذ سنوات طويلة ببعض المسؤولين، وناقش معهم الوضع المعمول به فى المملكة المتحدة وكيفية الاستفادة من التجربة، وكالعادة، وللأسف، لم يلتفت أحد، وقد أرسل لى، منذ أيام، يخبرنى بأن أحد رؤساء الجامعة فى مصر رفض مناقشة ورقة عن إصلاح المنظومة العلاجية، بها نقد موضوعى لمشروع التأمين الصحى الجديد، وكانت حجته أن ذلك قد يسبب حرجًا للجامعة!!، وعندما ترفض الجامعات مناقشة أكاديمية لشعورها بالحرج تجاه مشروع صحى مهم، فلا أمل فى الإصلاح والتقدم الأكاديمى، كما أن ممارسة التفكير الحر المبنى على قواعد علمية من أهم قيم الجامعات المتنورة، كما قال د. سامح، وبالقطع هناك أمثلة كثيرة من المصريين فى الخارج لا يُلتفت إليها بكل أسف.. وأطالب بمحاسبة رئيس الجامعة المذكور إذا صحت الواقعة..
وأختم المقال بعرض الوثيقة التى أصدرتها رئاسة الجمهورية عند تكليف الرئيس السيسى للمهندس مصطفى مدبولى بتشكيل الوزارة الجديدة، والتى أشارت إلى المواصفات المطلوبة للاختيار والأهداف المطلوب تحقيقها وتتضمن اختيار ذوى الكفاءات والخبرات والقدرات المتميزة ووضع ملف بناء الإنسان المصرى على قائمة الأولويات، وخاصة الصحة والتعليم، ومواصلة جهود وتطوير المشاركة السياسية وكذا مكافحة الإرهاب للحفاظ على الأمن وتطوير ملفات الثقافة والوعى الوطنى والخطاب الدينى المعتدل، الذى يرسخ مفاهيم المواطنة والسلم المجتمعى..
وقد تفاءلت كثيرًا من هذه البداية، التى تكاد تعكس الكثير مما سبقت مناقشته فى الحوار الوطنى، وهو الطريق الأمثل والوحيد لهذا الوطن، الذى لم يك يومًا فى عداد الدول الفقيرة.. فمصر غنية بأبنائها وثرواتها وموقعها، وستظل كذلك إن شاء الله إذا خلصت النوايا.