بقلم - محمد المخزنجي
في 20 مارس (آذار) سنة 2000 انطلق مايك ماي رجل الأعمال الأميركي وبطل العالم في التزلج على الجليد لفاقدي البصر في أول رحلة طيران داخلية يقوم بها عقب تعافيه من عملية رائدة طيرت أخبار نجاحها وكالات الأنباء؛ إذ استخدمت فيها الخلايا الجذعية لتكوين قرنية جديدة أعادت النور إلى عينيه اللتين دمرت قرنيتيهما إصابة بمادة كيميائية وهو في الثالثة من عمره. ولأنه كان يشعر بالاضطراب والحيرة إزاء التغيُّر الذي حدث له، حاول إلهاء نفسه بالتفكير بعيداً عن الأمر، لكنه بعد ثلاثين دقيقة اكتشف أن بمقدوره الإطلال من النافذة على يساره، فأطل لتتزايد حيرته، والتفت إلى الراكبة الجالسة على يمينه يستسمحها «معذرة، لقد استعدت نظري منذ أسبوع واحد بعد أن عشت أعمى طوال 43 عاماً. أيمكنك مساعدتي في التعرف على ما أراه الآن؟».
حدقت فيه جارته بنظرة مديدة تعكس حيرتها فيما إذا كان هذا الرجل معتوهاً أو أعجوبة، لكنه كسر الصمت بسؤالها عما «إذا كانت تلك الخطوط البيضاء التي يستطيع رؤيتها في الأفق عبر النافذة جبالاً تكسوها الثلوج»، وأجابته الجارة جادة وساخرة «لا يا عسل. هذا ضباب»، عندها تدخل زوجها الذي يجلس إلى جوارها وقد تعرَّف على مايك مما يُنشر ويذاع عنه، وبدأ يشارك زوجته التي سحبت سخريتها بخجل، وراحا معاً يجيبان عن تساؤل جارهما عن كنه ما يراه عبر نافذة الطائرة من خطوط ومساحات وألوان، بصبر وتمهل كأنهما يعلمان طفلاً «هذه حقول بطن الوادي، وهذه قنوات، وتلك طرق، أما هذه فهي جبال، وهذا خط الساحل في لوس أنجليس؛ وهو ما يؤذن بنهاية الرحلة والاستعداد للهبوط».
بدأت حيرة مايك ماي هذه منذ أول لحظة لإزالة الضمادات عن عينيه بعد إجراء العملية، وقد كان هناك مصور يتابع الحدث المُنتظَر لحظة بلحظة، بينما جلس مايك في حين كانوا يُحْضرون إليه طفليه، وأظهرت الصور الطفلين وهما يرنوان إلى والدهما بحب وإعجاب، لكن مايك كان ينظر إليهما ببسمة حائرة مضطربة، فهو لم يكن يحس بما كان ينتظره عند رؤية وجوه أحب الناس إليه؛ لأنه لم يتعرف عليهما، بل على تداخلات من الألوان والأضواء تقول إن عينيه استعادتا الإحساس بالضوء والألوان والحركة، ولا شيء أكثر!
ظلت أسطورة مايك ماي الأميركية تشق طريقها باكتساح عبر وسائل الإعلام والمؤتمرات والاحتفاءات الاجتماعية، وتوَّجها الرئيس أوباما باستقبال حار لمايك في البيت الأبيض، كما التفتت الدنيا تتطلع إلى المعجزة الأميركية التي «جعلت الأعمى يرى»، لكن صاحب المعجزة كانت تساوره الشكوك، ومنها ما سجله في يومياته بتاريخ 12 يناير (كانون الثاني) 2003 قائلاً «مر ما يقارب ثلاث سنوات بعد إجرائي عملية أصلحت عيني، لكنني لا أزال ضعيف البصر، فعيون العقل التي تلعب دوراً رئيسياً في إبصاري لا تعمل».
كان أنين مايك ماي يعبر عما يعرفه علماء المخ والأعصاب، وقد أعطاه التعبير البلاغي الموجع والأدق، فالخلل كان يكمن فيما سماه «عيون العقل»، أو المراكز الدماغية لمُعالجة ما ترسله العيون إلى الأمخاخ، ومن دون فاعلية عيون العقل هذه يظل الإنسان أعمى مهما كانت أو صارت عيناه سليمتين، وهي حالة طبية تُسمَّى «عمى العقل»، لها أسباب كثيرة منها عدم تعليم وتدريب هذه المراكز على تحويل ما يرد إليها من العينين إلى صور مفهومة، كما في حالة مايك الذي فقد بصره مبكراً قبل ترسيخ فاعلية هذه المراكز.
الآن، صار مايك ماي نجماً أميركياً قديماً أزاحته نجوم جديدة، ولا تزال الاختبارات التي يخضع لها تؤكد أنه حسير البصر الذي لم يتطور لرؤية، فلم ينقطع عن الاستعانة بكلبه الذي ظل يصاحبه وهو يعبر الشوارع، كما عاد يلجأ إلى حاستي اللمس والسمع اللتين دعمهما المخ وشحذتهما كثافة التعلم وتراكم الخبرة بعد أن كف البصر. فما أغلى عيون العقل، وما أقسى عمى الأمخاخ إذ تتبطَّل، وتتعطَّل!
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع