توقيت القاهرة المحلي 19:07:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رائحة الثوم المحروق

  مصر اليوم -

رائحة الثوم المحروق

بقلم - محمد المخزنجي

القصة وردت في الكتاب الرائع الضخم عن مرض السرطان «إمبراطور المآسي»، وتحكي أنه في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1943 أغار سرب من الطائرات الألمانية على مجموعة سفن أميركية راسية قرب مدينة باري جنوب إيطاليا، وكانت إحدى هذه السفن، وتدعى «جون هارفي»، محمّلةً بسبعين طنّاً من غاز الخردل دون معرفة طاقمها بذلك، ومع اشتعال السفينة اشتعلت حمولتها من الغاز السام، وبدأ الصيادون والقاطنون حول الميناء يعانون من رائحة الثوم المحروق التي تشبَّع بها الهواء، وتم انتشال البحارة الأميركيين من المياه وهم يعانون من رعب الألم وعيونهم مغلقة ومنتفخة. وخلال الأسبوع الأول توفي 83 رجلاً من أصل 617 ممن تم انتشالهم، وانتشر الغاز بسرعة فوق الميناء ومحيطه فتوفي ما يقارب ألف إنسان متسممين بهذا الغاز.

«في الواقع فجَّر الحلفاء أنفسهم» كان ذلك تعليقاً ذيَّل به الكاتب القصة، التي لم تنتهِ عند هذا الحد، بل اتخذت مساراً مُفارقاً تماماً يقول إن ما تفجَّر هو شيء آخر غير خداع الحروب وانحطاط أدواتها؛ فرغم أن هذه الحادثة كانت سبباً في سرعة إنشاء وحدة سرية لدراسة غازات الحروب سُمِّيت «وحدة الحرب الكيماوية» أبرمت عقوداً مع كثير من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، فإن العالِمَيْن اللذين كان من نصيبهما البحث المتعلق بغاز الخردل، وهما لويس جودمان وألفريد جيلمان، أخذا البحث إلى مسار مختلف تماماً عن غاية ما تم التعاقد معهما بشأنه.

لم يهتم العالمان كثيراً بالخواص المسببة للبثرات الجلدية لغاز الخردل وقدرته على إحراق الجلد والأغشية المخاطية لضحاياه، لأن ما شد انتباههما أكثر هو قدرة هذا الغاز على إهلاك خلايا الدم البيضاء وتدمير نخاع العظام، وهو ما أثبته تشريح جثث الجنود الأميركيين ضحايا الكارثة. وشغل تفكير جودمان وجيلمان سؤال مثير: هل يمكن استخدام هذا التأثير بجرعات ضئيلة دقيقة لاستهداف تكاثر الخلايا البيضاء السرطانية بشكل نوعي؟

وللإجابة عن السؤال، بدأ العالمان إجراء أبحاثهما على الحيوانات، ووجدا أن الحقن الوريدي للفئران والأرانب بالخردل جعل خلايا الدم البيضاء الطبيعية تختفي تقريباً من الدم والنخاع العظمي، دون أن تتسبب في ظهور البثرات البغيضة على الجلد، مما يعني الفصل بين تأثيري الخردل واستثمار أحدهما لغرض علاجي، وشجعهما ذلك على تركيز أبحاثهما على سرطان الغدد الليمفاوية لدى حيوانات التجارب في البداية، ثم على حالة بشرية متطوعة، وأدى حقن هذا العلاج الوريدي بالخردل إلى هجوع المرض بشكل مُبهِر واختفاء العقد الليمفاوية المتضخمة لدى الفئران والإنسان!

أعاد النجاح الأولي لغاز الخردل في قتل الخلايا السرطانية إحياء جدل قديم حول السموم بين الضر والنفع، كما أعاد لضمير الطب إعلاء غايات الإحياء على أحقاد الإماتة، ففي عام 1948 قام كونيليوس رودز رئيس وحدة الحرب الكيماوية في الجيش الأميركي بترك منصبه ليصبح مديراً لمستشفى ميموريال ومعهد الأبحاث الملحق به، مُركِّزاً على هدف محاربة السرطان كيماوياً. وتكللت خطوته بعد ذلك بالنجاح؛ ففي أوائل الخمسينات من القرن العشرين، نجح الطبيبان العالمان جوزيف بورشينال وماري لويس مورفي في علاج أطفال مصابين بمرض لوكيميا ليمفاوية من النوع الحاد والنادر بعقار بدأ تجاربه كونيليوس رودز نفسه، وفي مستشفى ميموريال ذاته.

حقق ذلك الدواء الجديد حينها هجوعاً سريعاً في المرض حيث تلاشت خلايا اللوكيميا من نخاع العظام، ومن الدم، في غضون أيام قليلة في أغلب الحالات. لكنه كان هجوعاً مؤقتاً وكأنه ومضة خير عابرة في عتمة شر عنيد، لكنها ومضة ظلت تتسع ويتكاثف ضوؤها يوماً بعد يوم حتى بلغت ما بلغته علاجات السرطان المتقدمة الآن، وهي قصة تقول لنا: هناك أشياء كثيرة تحتمل الوجهين، الخير والشر، الإحياء والإماتة، وما يُرجِّح فوز أيهما على الآخر هو الاختيار، فمن رائحة الثوم المحروق للخردل القاتل، هناك من تنسَّم أريج مادة شافية من بعض أذى إمبراطور المآسي، مرض السرطان.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رائحة الثوم المحروق رائحة الثوم المحروق



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 00:02 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة
  مصر اليوم - انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 11:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 20:28 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب الله
  مصر اليوم - قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب الله

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

سوسن بدر تخوض تجربة فنية جديدة
  مصر اليوم - سوسن بدر تخوض تجربة فنية جديدة

GMT 11:08 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
  مصر اليوم - الكشف عن قائمة بي بي سي لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 19:42 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

قلق في "أرامكو" بسبب هجمات الخليج وارتفاع سعر النفط

GMT 02:08 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

مي عمر تكشف عن حقيقة علمها بمقلب "رامز في الشلال"

GMT 07:15 2019 الثلاثاء ,19 شباط / فبراير

كشف غموض وفاة 22 عالمًا بعد فتح مقبرة توت عنخ آمون

GMT 10:06 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

رسالة حسن الرداد إلى محمد رمضان بعد أغنية "نمبر وان"

GMT 22:21 2019 الإثنين ,21 كانون الثاني / يناير

روبرتو فيرمينو يُجدد شكره لزميله "محمد صلاح"

GMT 06:52 2019 الأحد ,20 كانون الثاني / يناير

"مشاهير حول العالم راحوا ضحية "الالتهاب الرئوي

GMT 11:08 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

تعرَّف على أنواع السيارات الأكثر مبيعًا في عام 2018

GMT 15:10 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

علامة "كايلي" و"كاندال" تطلق حقائب زهيدة الثمن

GMT 14:17 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على أفكار إضاءة رائعة لحفلة زفافك الخارجية

GMT 10:13 2018 الجمعة ,07 أيلول / سبتمبر

اكتشفي طرق مختلفة لتحضير الفول
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon