بقلم : طاهر حمدي كنعان
فى لغة العرب، يوصف الفارس حامل السيف والمحصن بالدرع بـ«المدجج» الذى ذكره عنترة بن شداد: «ومدجج كره الكماة نزاله، لا ممعن هربا ولا مستسلم». فى المقابل يوصف الفارس الذى سقط درعه ونبا سيفه بأنه «معور» أى مكشوف لا دفاع لديه، والمصدر اللغوى منه «الإعوار» أى الانكشاف وغياب الحماية.
وما دوّت فضيحته بنتيجة الهجوم اليمنى على محطات أرامكو فى السعودية هو إعوار السعودية ودول الخليج تجاه الهجمات الخارجية وهشاشة بناها التحتية. لقد أدى الهجوم إلى التوقف لفترة من الوقت عن تصدير النفط والغاز، وبالتالى توقف الإيراد المالى المصاحب. لكن الهشاشة الأخطر هى الاعتماد الحيوى لدول النفط على محطات تحلية المياه والطاقة التى لا يمكن إخفاؤها تحت الأرض، فإذا ضربت على شاكلة ضربة أرامكو فإن شللا عاما سيصيب كل مرافق الحياة فى هذه البلدان. ولذلك فإن إعوار دول الخليج العربية هو إعوار وجودى يجعل من ضرورة تجنب الحرب ضرورة وجودية، لا سيما إذا كانت حربا مع ذوى القربى والجيران.
***
وكان الرئيس الأمريكى ترامب مدركا واقع الإعوار الخليجى حين صارح دول الخليج بأنها لا تستطيع البقاء لأسابيع دون الحماية الأمريكية، وبنى على ذلك ابتزازه للمال العربى الخليجى ثمن تلك الحماية. وظن الحاكمون فى دول الخليج العربية أنهم قادرون خلف هذه الحماية ولقاء المال المستنزف أن يركبوا «عاصفة الحزم» لخوض حربهم على اليمن.
لكن واقعة أرامكو بينت أن الحماية الأمريكية غير مضمونة الفعالية. كما أن الرئيس الأمريكى ليس فى وارد خوض حروب جديدة بعد أن أمعن فى انتقاد أسلافه من الرؤساء الأمريكيين الذين بددوا أموال الشعب الأمريكى فى حروب لا جدوى اقتصادية لها. وفى هذا الشأن أجدنى أتحفظ على آراء الكثير من المراقبين والمعلقين الذين يتبارون فى كيل الأوصاف الأكثر سلبية للحط من شخصية الرئيس ترامب والطعن فى كفاءته ولياقته لرئاسة القوة الأعظم فى العالم والسخرية من شذوذ سلوكياته الشخصية أو رعونة سياساته، كما أنى لا أطمئن إلى صلابة التزامه أو نقاء دوافعه فيما يتعلق بتحالفه مع إسرائيل والصهيونية على حساب حقوق الفلسطينيين والعرب الآخرين.
فى رأيى أنه إذا جردنا أقوال وقرارات وأفعال الرئيس ترامب من الشكليات المظهرية التى توحى بالخفة والرعونة وغياب المنطق الرشيد، لوجدناها فى جوهرها على قدر غير قليل من المنطق والعقلانية أو هى مثال كلاسيكى على البرجماتية الأمريكية. فهو رغم تعرضه لتحريض متطرفين مغيبى الرشد والعقلانية مثل نائبه مايك بينس ومستشاره (السابق) بولتون، نجده يحجم عن قرارات متطرفة كانت خليقة بأن تشعل النار فى كل بؤر التوتر التى تعامل معها، من كوريا الشمالية إلى فنزويلا إلى أفغانستان إلى إيران. بل لقد صرح بشأن بولتون منتقدا: «لو طاوعت مستشارى بولتون لكنا الآن فى حرب مع كل دولة لا نحبها!».
لكن ثبت دون شك أن الأولويات التى تسود قرارات ترامب هى فى منتهى الوضوح وهى كسب الأموال وكل ما يصب فى إنعاش الاقتصاد الأمريكى وخلق فرص العمل للأمريكيين ويحسن فرص إعادة انتخابه. (ولا بأس على الهامش من كسب أموال للأسرة والأصهار، وأيضا لتمويل إعادة الانتخاب!).
***
علاقة ترامب بالدول العربية المتمولة تنطلق من تلك الأولويات. فلأول مرة تتعامل الدول العربية مع رئيس أمريكى غير «مؤدلج» ويقبع الكسب المالى فى رأس أولوياته. فلو أن هذه الدول استوحت مصالحها الوطنية فى علاقتها مع الولايات المتحدة، وفى موازنة هذه العلاقة مع علاقاتها مع القوى العظمى المنافسة، الصين وروسيا، وفى عهد هذا الرئيس بالذات، لسخرت أموالها فى خدمة هذه المصالح ضمن علاقات دولية متوازنة، ولأمكنها بذلك أن تحد من انسياق ترامب فى خدمة مصالح إسرائيل والصهيونية.
لكن المأساة هى فى أن الحاكمين فى الدول المذكورة لم يفكروا فى المصالح الوطنية، ولم يراعوا قدسية الثروات المالية التى ائتمنتهم شعوبهم عليها، فسمحوا لترامب بابتزازهم والمقايضة على ثرواتهم مقابل حماية كراسى الحكم. ولا مخرج من هذا المستنقع الموحل إلا بتعديل اتجاه البوصلة.
فإذا كان ترامب مستعدا لمفاوضة إيران، وهى العدو الصريح للشيطان الأمريكى وعميله الإسرائيلى، فهل من الرشد أن يستمر قادة عرب ــ مع واقع الإعوار الخطير لكيانات دولهم ــ فى ضلال الخضوع لابتزاز ثروات دولهم، والاسترسال فى النزيف المجانى للدماء فى اليمن وليبيا، أم أن يفيقوا على حقيقة أن الدم العربى فى اليمن وليبيا أبهظ ثمنا وأعز قدرا من النفط والغاز، وأن خطط الحروب العربية ــ العربية والإسلامية ــ الإسلامية هى خطط رسمها الشيطان الإسرائيلى، وأن ثمة ضرورة وجودية للانكفاء عن هذه الخطط، والتحلى بالحكمة والشجاعة والإقدام على الحوار والمفاوضة مع إيران جارتهم فى الجغرافيا وشريكتهم فى الدين والتراث الثقافى، فضلا عن المصالح الإقليمية المشتركة؟ أليسوا هم الأجدر بهذا الفعل قبل أن تسبقهم إليه فى نيويورك حنكة الرئيس الإيرانى روحانى وبراجماتية ترامب؟