بقلم - ياسر رزق
في قاعة نيلسون مانديلا المهيبة، تسلم الرئيس عبدالفتاح السيسى مطرقة الرئاسة الإفريقية وعلم الاتحاد الإفريقى ومعهما هموم وأحلام 1200 مليون من أبناء القارة.
فى قلب القاعة المستديرة التى تشبه كثيراً -على نحو مصغر- قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، كان مقعد الرئيس السيسى الذى يتصدر أعضاء الوفد الرباعى المصرى، قبلة رؤساء الدول والحكومات الإفريقية المشاركين فى الدورة الثانية والثلاثين لقمة الاتحاد الإفريقى بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا. التف عدد كبير من القادة حول الرئيس يصافحونه ويتبادلون معه الأحاديث.
علاقة شخصية طيبة تربط السيسى بكل واحد منهم. فقد التقاهم إما فى القاهرة أو فى عواصم دولهم، أو فى المحافل الدولية الخارجية المتعلقة بالتعاون مع إفريقيا.
حتى القادة الجدد المنتخبين، يعرفهم الرئيس ونسج معهم أواصر صلة وطيدة، آخرهم الرئيس فيليكس تشيسكيدى رئيس الكونغو الديمقراطية الجديد الذى التقاه الرئيس فور وصوله إلى العاصمة الإثيوبية يوم السبت الماضى. يكن الرئيس تشيسكيدى مشاعر امتنان للرئيس السيسى الذى كان أول من هنأه بفوزه فى الانتخابات والتقى فى القاهرة وفداً كنغولياً رفيع المستوى الأسبوع الماضى يضم ممثلاً عن الرئيس المنتخب وآخر عن الرئيس السابق دعما للسلام والأمن والاستقرار فى هذا البلد الإفريقى الكبير.
أما أعضاء الوفد المصرى الذى ضم سامح شكرى وزير الخارجية واللواء عباس كامل رئيس المخابرات العامة واللواء محسن عبدالنبى مدير مكتب رئيس الجمهورية والسفير أسامة عبدالخالق سفير مصر فى إثيوبيا، فقد أحاط بهم أعضاء الوفود الإفريقية من الوزراء وكبار المسئولين الذين توافدوا إلى حيث مجلس الوفد المصرى يمين القاعة لتقديم التهنئة بتولى مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى، والتنسيق حول القضايا المطروحة على القمة الحالية، وطلب عقد لقاءات ثنائية بين الرئيس السيسى وعديد من قادة الدول على هامش جلسات القمة.
< < <
فى الثالثة إلا عشر دقائق من بعد ظهر أمس الأول، نودى على اسم الرئيس السيسى فى قاعة نيلسون مانديلا التى يميزها اللون البنى بدرجتيه الفاتحة والغامقة الذى يغلف جدران القاعة ويكسو مقاعدها وأرضياتها فى طوابقها الثلاثة.
دوت القاعة بتصفيق حاد، لم يتوقف منذ ترك الرئيس مقعده وسار فى ممر القاعة إلى حيث المنصة، وصعد درجاتها الثلاث إلى الطاولة الرئيسية التى تضم الرئيس الرواندى بول كاجامى الرئيس السابق للاتحاد الإفريقى ورئيس المفوضية الإفريقية موسى فكى، وكبار ضيوف القمة وأبرزهم الرئيس الفلسطينى أبومازن وسكرتير عام الأمم المتحدة جويتريش والأمين العام للجامعة العربية أحمد أبوالغيط.
وفى مشهد تغلفه المودة والتقدير، تسلم السيسى مطرقة الرئاسة وعلم الاتحاد من صديقه الرئيس كاجامى، ووقف الرئيس إلى منصة الخطابة يلقى خطابه الشامل إلى الشعوب الإفريقية.
منذ خمسة وخمسين عاماً، تسلم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر رئاسة منظمة الاتحاد الإفريقى من الإمبراطور الإثيوبى هايلا سلاسى، ومنذ ثلاثين عاما، تسلم الرئيس الأسبق حسنى مبارك رئاسة المنظمة من الرئيس المالى موسى تراورى، ثم عاد وتسلمها منذ ستة وعشرين عاماً من الرئيس السنغالى عبده ضيوف.
ومنذ ذلك الحين لم يتكرر المشهد لرئيس مصر حتى أمس الأول.
< < <
حينما كان الرئيس السيسى يتوجه إلى منصة الخطابة لإلقاء كلمته، تداعت إلى ذهنى ذكريات 56 شهراً مضت منذ تولى الرئيس منصبه فى ملف السياسة الخارجية المصرية المظلوم لدى الساسة والنخبة والإعلام.
تذكرت مصر المهمشة عربياً قبل أربع سنوات ونصف، والمجمدة عضويتها إفريقياً، والمعزولة دولياً، وقارنت بين الوضعين فى ذلك الحين، وفى هذه الأيام، لكن يبدو أن آفة حارتنا النسيان، على حد تعبير أديب نوبل نجيب محفوظ.
بعد مرور 18 يوماً لا غير من دخوله إلى قصر الاتحادية، طار السيسى إلى مالابو عاصمة غينيا الاستوائية لحضور القمة الإفريقية الطارئة، ولكى يباشر عضوية مصر التى جمدت فى أعقاب ثورة 30 يونيو وبيان 3 يوليو كسوء فهم لحقيقة ما جرى فى مصر والخلط بين الثورة والانقلاب.
بعد أقل من عام زال تجميد العضوية فور انتخاب السيسى.
وبعد 42 شهراً، اختار القادة الأفارقة فى العام الماضى مصر لرئاسة الدورة التالية للاتحاد الإفريقى.
وبعدها بعام تسلم السيسى رئاسة القمة.
هذه الرئاسة لا تحل بالدور بين دول القارة، وإنما بالتناوب بين مناطقها. واختيار مصر لرئاسة الاتحاد لم يكن أمراً روتينياً كما تروج أبواق الحقد والغل الإخوانى على شاشات الفضائيات الممولة قطرياً وتركياً.
< < <
قضايا وهموم وآمال وأحلام القارة، لم تأت لأول مرة أمس الأول على لسان السيسى فى خطاب تسلم رئاسة الاتحاد.
على مدى السنوات الماضية، حمل السيسى شئون وشجون القارة، وطرحها على المجتمع الدولى من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر من كل عام منذ سنة 2014، ومن منصة مجلس الأمن حينما انتخبت مصر عضوا غير دائم بالمجلس لمدة عامين منذ يناير 2016، وكذلك فى المؤتمر الدولى للتغيرات المناخية بباريس حينما كانت مصر رئيساً للجنة القادة الأفارقة المعنية بالتغيرات المناخية، وفى المحافل الدولية العديدة التى دعيت إليها مصر فى قمة العشرين بمدينة هاننجو بالصين، وفى قمة البريكس بمدينة شيامين الصينية، وفى قمم التعاون الدولية مع إفريقيا.
وكان لمصر الدور الرئيسى والفاعل فى توحيد التجمعات الاقتصادية الإفريقية الثلاثة وصولاً إلى إنشاء منطقة التجارة الحرة الإفريقية، أملاً فى تأسيس السوق الإفريقية المشتركة التى بشر بها عبدالناصر فى كلمته منذ 56 عاماً فى أول قمة لمنظمة الوحدة الإفريقية، وذكرنا بها الرئيس السيسى أمس الأول.
لكل ذلك وغيره، لم يكن مفاجئا الاجماع الإفريقى على اختيار مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقى، عرفانا بتاريخها ودورها فى جمع الأفارقة فى منظمة الوحدة ومساندة حركات التحرر الإفريقية، وتقديراً لحاضرها فى مساندة قضايا القارة والدفاع عن حقوقها والوقوف بصلابة كصوت إفريقيا الشجاع فى كل المحافل، وأملاً فى مستقبل أفضل للعمل الجماعى الإفريقى خلال عام رئاسة مصر للاتحاد.
< < <
هذا العام حافل بالتزامات خارجية عديدة للرئيس السيسى كرئيس للاتحاد الإفريقى بجانب رئاسته لمصر.
فسوف تشارك مصر فى قمة العشرين باليابان، وقمة إفريقيا - اليابان، وغيرهما.
بجانب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والقمم التى ستعقد على هامشها بشأن القضايا الإفريقية.
العنوان الرئيسى لهذه القمة هو «اللاجئون والعائدون والنازحون داخل دولهم». وهذه القضية المعقدة ستكون على رأس اهتمامات رئاسة السيسى للاتحاد الإفريقى، بهدف احداث اختراق حقيقى نحو إيجاد حلول عملية وسريعة لها يمكن البناء عليها خلال السنوات المقبلة.
ولعل السيسى من أكثر القادة ادراكا لتأثيرات هذه القضية إذ تستضيف مصر خمسة ملايين لاجىء، بينما تعانى إفريقيا من وجود 8 ملايين لاجىء فى الدول جنوب الصحراء ومعهم 18 مليون نازح، مما يشكل تحدياً هائلاً لإعادتهم إلى بلدانهم، وتحدياً أكبر فى إنهاء النزاعات التى تسببت فى تهجيرهم من بلداتهم.
الملفات الإفريقية التى وضعت على كتفى السيسى بجانب هموم بلاده وهموم أمته العربية، تتسم بالصعوبة والتعقيد الشديدين، بدءاً من قضايا الأمن والسلم ومحاربة الإرهاب، مروراً بمكافحة الفقر والجهل والمرض، وصولا إلى التنمية العادلة المستدامة والتمثيل العادل لإفريقيا فى مجلس الأمن ومراعاة الحقوق الإفريقية فى قضايا المناخ وتأسيس نظام مالى واقتصادى دولى أكثر عدالة وإنصافاً.
من يطالع بدقة كلمة الرئيس السيسى الموجزة والشاملة فى نفس الوقت، يجد الماماً عميقاً بتلك الملفات، وإدراكا واسعاً لتلك القضايا، ورؤية محددة للتعامل معها، وعزماً على سرعة الإنجاز على طريق إيجاد حلول لها.
< < <
قبيل انعقاد الجلسة المغلقة للقادة الأفارقة ومن بعدها الجلسة الافتتاحية للقمة فى مقر الاتحاد الإفريقى، انعقدت فى مقر الحكومة الإثيوبية الذى كان مقراً للإمبراطور هيلاسلاسى، قمة ثلاثية جمعت الرئيس السيسى والرئيس السودانى عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد.
هذه هى القمة الثلاثية الأولى للقادة الثلاثة بعد تولى آبى رئاسة الحكومة الإثيوبية خلفا لهايلى ماريام ديسالين.
فى العام الماضى، وقبل انعقاد القمة الحادية والثلاثين للاتحاد الإفريقى، اجتمع قادة الدول الثلاث فى مقر إقامة الرئيس السيسى بفندق شيراتون أديس أبابا على مدى 150 دقيقة، وأسفر الاجتماع عن بعض الإجراءات لحسم المسائل العالقة فى الإطار الفنى لسد النهضة وتحقيق مصالحة الدول الثلاث وأخذ مصلحة كل دولة فى الاعتبار.
وبعد 8 أسابيع من هذه القمة، أدت التطورات السياسية فى إثيوبيا إلى استقالة ديسالين، وتولى آبى أحمد رئاسة الوزراء فى إثيوبيا، وأسفرت تلك التطورات عن تأجيل اجتماعات وزارية تم الاتفاق عليها فى القمة الثلاثية.
جرى اللقاء الأول بين السيسى وآبى أحمد بالقاهرة يوم 10 يونيو الماضى، وكان لقاء تجديد الثقة بين مصر وإثيوبيا حول القضايا الثنائية وعلى رأسها ملف سد النهضة.
وأمام عدسات الكاميرات فى المؤتمر الصحفى المشترك، أقسم آبى أحمد بعدم الإضرار بمياه مصر فى نهر النيل، وبدوره أقسم الرئيس السيسى بأن مصر لن تضر بإثيوبيا أبداً.
ثم أوفد الرئيس السيسى وزير الخارجية سامح شكرى ورئيس المخابرات العامة اللواء عباس كامل إلى أديس أبابا يوم 28 أغسطس الماضى، والتقيا آبى أحمد ونقلا له رسالة من السيسى، وجرى خلال اللقاء الاعداد لاجتماع مرتقب بين الزعيمين فى الصين على هامش قمة الصين- إفريقيا.
بالفعل.. التقى السيسى وآبى أحمد فى بكين يوم 2 سبتمبر الماضى وجرى التأكيد على ضرورة التوصل لاتفاق يؤمن حقوق مصر المائية ويحفظ للجانب الإثيوبى حقوقه فى التنمية.
< < <
لم تسفر الشهور الماضية عن إنهاء المسائل العالقة على صعيد ملف سد النهضة، لذا كان من الضرورى عقد قمة ثلاثية بين دول حوض النيل الشرقى، وجاء موعدها على هامش قمة الاتحاد الإفريقى فى إثيوبيا.
لم يسمح للإعلام بمتابعة القمة الثلاثية فى مقر الحكومة الإثيوبية، ولا الاستماع إلى بيان مشترك للقادة الثلاثة فى أعقاب القمة.
وصدر بيان مقتضب للسفير بسام راضى المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية يؤكد أن القمة تهدف إلى توفير مظلة سياسية لدعم المفاوضات الفنية حول سد النهضة والتغلب على أى عراقيل فى هذا الصدد، وأوضح المتحدث أن الرئيس أكد على أهمية العمل على اتباع رؤية متوازنة وتعاونية لملء وتشغيل سد النهضة بما يحقق مصالح وأهداف كل دولة من الدول الثلاث ويحول دون الافتئات على حقوق الأخرى. وشدد القادة على الحاجة إلى مشاركتهم لرؤية واحدة إزاء مسألة السد تقوم على أساس اتفاق إعلان المبادىء الموقع فى الخرطوم وإعلاء مبدأ عدم الإضرار بمصالح الدول الثلاث فى إطار المنفعة المشتركة.
فهمت من البيان أن هناك مسافة لم نجتزها بعد نحو التوافق على ما تم الاتفاق عليه!
سألت وزير الخارجية سامح شكرى عقب الجلسة الافتتاحية للقمة الإفريقية عن نتائج القمة الثلاثية.. وأجاب بصراحته المعهودة: القمة أكدت على الأسس التى يقوم عليها اتفاق المبادىء حول سد النهضة الموقع فى الخرطوم عام 2015، لكن لم يتم التوصل بعد إلى رؤية موحدة بالنسبة لقضية ملء خزان السد وتشغيله، ونحن نحتاج إلى إعادة المفاوضات لمسارها، وسوف ندعو لاجتماع لوزراء الخارجية والرى بالدول الثلاث فى القاهرة يوم 20 فبراير الحالى.
كلام وزير الخارجية، جاء مكملاً لدردشة جرت بينى وبين وزير الرى د.محمد عبدالعاطى الذى تجاورنا معاً فى مقاعد الطائرة التى أقلتنا إلى أديس أبابا. بدا وزير الرى حاسماً وحذراً فى كلامه ومواقفه وتوقعاته، لكن التفاؤل لم يغب عن حديثه.
< < <
أمس.. انتهت أعمال القمة الإفريقية الثانية والثلاثين، بعد عديد من الجلسات المغلقة التى تناولت قضايا الأمن والسلم الإفريقى وتقارير رؤساء لجان المؤتمر عن آلية مراجعة الأقران ووضع الحكم فى إفريقيا، وعن تحضيرات إفريقيا لمفاوضات تغير المناخ وإصلاح مجلس الأمن، وكذلك موضوعات خاصة بمكافحة الإرهاب والفساد ومرض الملاريا، واعتماد مشروعات إنشاء الوكالة الإفريقية للأدوية والنظام الأساسى للجنة الإفريقية للسينما ومركز الاتحاد الإفريقى الدولى لتعليم النساء.
واليوم يغادر الرئيس السيسى أديس أبابا عائداً إلى القاهرة، حاملاً معه ملفات القارة، وآمالها المعلقة على مصر وقائدها.
نقلا عن أخبار اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع