اذهب إلى حى «نمرة 6» بمدينة الإسماعيلية، قف فى الشرفة المطلة على قناة السويس بين المسجد والمستشفى.
أسفل الجرف الذى ترنو من قمته، تتدفق مياه القناة، وعلى امتداد البصر عند ضفتها الشرقية توجد جزيرة عرضها 900 متر، ومن بعدها تجرى القناة الجديدة بطول نحو 70 كيلومتراً من الدفرسوار إلى البلاح.
إلى يسارك شرق القناة الثانية لتتراص مبانى الإسماعيلية الجديدة، ڤيلات وعمارات وأندية وحدائق ومنشآت حكومية.
مكان الجزيرة الرملية بين القناتين، ومعها القناة الثانية والإسماعيلية الجديدة، كان يقبع خط بارليف بحصونه القوية، على طول القناة من بورفؤاد إلى السويس.
على امتداد الضفة الشرقية للقناة بطول 170 كيلومتراً، كان الساتر الترابى الذى أقامته إسرائيل بعد احتلالها سيناء فى حرب 1967، ينهض بارتفاع يصل إلى 21 متراً، يمنع رؤية ما يجرى وراءه، وبزاوية ميل 80 درجة، تجعل من المستحيل على أى مركبة من أى نوع اجتيازه، وعلى أى أفراد اعتلاءه.
خلف الساتر الترابى، وبأعماق تصل إلى عدة كيلومترات، كانت تقبع النقاط القوية التى تتحصن بها قوات الخط الدفاعى الأول للعدو، وهى مجهزة هندسيا لمقاومة القذف الجوى والقصف المدفعى ومزودة بمدافع مختلفة الأعيرة تلقى بحممها على الضفة الغربية للقناة ومدنها.
وحتى عمق 5 كيلومترات.. كانت قوات الاحتياطى القريب المعادى تتمركز بمدرعاتها خلف الحصون القوية لنجدتها إذا لزم الأمر.
على قمة الساتر الترابى.. أنشأ العدو مصاطب دبابات، تعتليها المركبات المدرعة المسلحة وقت الحاجة.
وعند أقدام الساتر الترابى، توجد فتحات لمواسير متصلة بخزانات معبأة بمادة النابالم الحارقة التى تزيدها المياه اشتعالا.
إذا فكر الجيش المصرى حينئذ فى عبور القناة، فسوف تضخ مواسير النابالم النيران لتشعل صفحة القناة وتحرق قوارب العبور بالعابرين، والمركبات البرمائية بمن فى داخلها.
وإذا نجحت قوات فى اجتياز القناة، فسوف تصطادها نيران المركبات المدرعة والقناصة المتمركزة على مصاطب الساتر ومزاغل النقاط الحصينة.
وإذا تمكنت عناصر من المشاة تخطى الساتر الترابى، فلن تلحقها قوات ميكانيكية ومدرعة، لأن زاوية ميل الساتر الترابى وكذلك ارتفاعه الهائل، لن يسمحا للعربات والدبابات والمدافع المجرورة باجتيازه.
بالتالى ستكون قوات المشاة التى نجت من كل العقبات السابقة، فى مصيدة بين القناة وحصون خط بارليف ودبابات الاحتياطى القريب التى ستنقض عليها وتفتك بها.
ناهيك عن السيادة الجوية الإسرائيلية الكاملة على طول الضفة الشرقية للقناة وسيناء، ومن ثم ستمحو طائرات الهليكوبتر والهجوم الأرضى الإسرائيلية أى وجود لما يتبقى من قوات تجاسرت على العبور إلى سيناء.
تقديرات الخبراء العسكريين كانت تقول إن خسائر مصر من عملية العبور ستكون فى حدود 20 ألف مقاتل.
أى خطة لعبور القناة واحتلال خط بارليف كان محكوما عليها عسكرياً بالفشل التام.
هذا الخط الدفاعى الحصين المسمى باسم الجنرال الإسرائيلى حاييم بارليف رئيس الأركان الذى أشرف على إنشائه، هو بكل المقاييس أقوى خط عسكرى عرفه التاريخ، ويزيد من تحصيناته عن خط سيجفريد الألمانى وماچينو الفرنسى، إلى درجة أن الخبراء السوڤييت وصلوا إلى قناعة بأنه لا يمكن تدمير هذا الخط إلا بقنبلة ذرية.
لم نكن قبل حرب 1973 نمتلك قنبلة ذرية.
بل إسرائيل كانت تمتلك 13 قنبلة ذرية.
هكذا علمت من ثعلب العسكرية المصرية الراحل اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية أثناء حرب أكتوبر فى لقاء لى معه منذ 25 عاماً مضت.
كنا نعلم أن إسرائيل تمتلك هذا العدد من الأسلحة النووية، وكانت قنبلة واحدة منها تكفى لردع أى جيش عن التفكير فى خوض الحرب.
مع ذلك.. لم يتردد الرئيس الراحل أنور السادات فى اتخاذ قرار الحرب، ولم يتوان عن خوض القتال بما فى أيدينا من سلاح. فالموت بكرامة أشرف من العيش فى مذلة.
أى مقارنة للقوات بين مصر وإسرائيل، لم تكن فى صالح الجيش المصرى. بالعكس كان الجيش الإسرائيلى متفوقاً كماً وكيفاً فى التسليح بالذات فى القوات الجوية.
هذا دون أن توضع فى المقارنة الأسلحة النووية!
برغم كل ذلك.. اتخذ السادات قرار المعركة.
خضنا الحرب متحدين كل التوقعات.
لم تكن معركة العبور، قفزاً انتحارياً للجيش المصرى فى محرقة القناة.
فقد اتخذ المخطط المصرى واتخذت القيادة المصرية كل الإجراءات الممكنة التى تكفل إنجاح العبور.
المعلومات الدقيقة لرجال المخابرات الحربية مكنت القيادة المصرية من معرفة مواقع مواسير ضخ النابالم.
وفى فجر يوم السادس من أكتوبر، قامت عناصر الصاعقة البحرية بعملية على طول القناة، سدت خلالها فتحات المواسير لمنعها من قذف حممها.
لم نكن بحاجة إلى قنبلة ذرية لتدمير خط بارليف.
فالساتر الترابى تمت اهالة رماله، بواسطة مضخات تتشرب المياه من القناة وتلقيها مضغوطة على مناطق فى الساتر لشق ثغرات فيه، تمكنت قوات المهندسين من تثبيت الكبارى عليها لعبور المركبات والمدرعات واجتياز الساتر الترابى. وكانت الفكرة للمقدم مهندس باقى زكى يوسف.
أما النقاط القوية، فقد نجحت فى تليينها القصفة المدفعية الهائلة على طول جبهة القناة بمشاركة أكثر من ألفى مدفع، تطلق 175 دانة فى الثانية الواحدة، ولمدة 53 دقيقة فى تمهيد نيرانى هائل.
ومع التمهيد المدفعى.. كانت طائرات الضربة الجوية تقصف مواقع العدو ومطاراته ومراكز قيادته فى عملية مركزة شاركت فيها 222 طائرة، بينما تصدت صواريخ الدفاع الجوى فى حائط الصواريخ غرب القناة لأى غارة إسرائيلية ونجحت فى تحييد ذراع إسرائيل الطولى.
على مدى 6 ساعات، نجحت القوات المصرية فى عبور قناة السويس وأصبح لنا شرق القناة مائة ألف مقاتل مشاة، نجحوا فى تطويق حصون خط بارليف والتصدى لهجوم دبابات الاحتياطى القريب المعادية، بالأسلحة المضادة للدبابات المحمولة على الاكتاف.
وقاتلت عناصر المشاة بكل بسالة فى الجيش الثانى والثالث، حتى تمت إقامة الكبارى وعبور القوات الميكانيكية والمدرعة إلى شرق القناة.
اعتمدنا مع التخطيط المتكامل والتنفيذ الدقيق، على خطة خداع شاملة، نجحت فى تحقيق المفاجأة الاستراتيجية والتكتيكية ومباغتة العدو فى وقت كان يظن العبور مستحيلا والنصر المصرى من قبيل الأوهام.
كل خسائرنا فى عملية العبور بعد ظهر السادس من أكتوبر لم تزد على 174 شهيدا، ولم نكن بحاجة إلى قنبلة ذرية لتدمير خط بارليف، فقد كان لدينا حسن التخطيط وبراعة التنفيذ وكفاءة استخدام كل وسائل انتاج النيران المتاحة، وبسالة مقاتلين لا يقبلون بديلاً عن النصر سوى الشهادة. ومع كل ذلك إيمان عميق بالله تجسد فى هتاف «الله أكبر» الذى دوى فى عنان السماء.
أمر القتال الذى أصدره الرئيس الراحل أنور السادات إلى الفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة يوم الخامس من أكتوبر 1973، كان ينص على كسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر 1973، وتكبيد العدو خسائر فى الأفراد والقوات والمعدات، والعمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب تطور إمكانات وقدرات القوات المسلحة.
إذن فالجيش المصرى عندما أقام خمس رءوس كبارى شرق القناة بأعماق تتراوح بين 15-20 كيلومتراً، بنهاية الحرب، إنما هو قد نفذ أمر القتال وحقق المهام المكلف بها فى هذه المعركة حتى توقف إطلاق النار بحلول يوم 28 أكتوبر.
كنا نعلم قبل الحرب، أنه لو جرت المعارك فى صالحنا، فإن الولايات المتحدة سوف تهب لنجدة إسرائيل.
وبالفعل، بعدما أطلقت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل نداءها إلى الرئيس الأمريكى نيكسون: «أنقذوا إسرائيل» يوم 8 أكتوبر، فى أعقاب فشل الهجوم المضاد الإسرائيلى، هب الرئيس نيكسون إلى تلبية النداء، وأمر بإرسال «كل شىء يطير» إلى إسرائيل حاملا المعدات والعتاد والسلاح.
اشتركت الولايات المتحدة فعليا ضد مصر فى هذه الحرب..
أسقطت الطائرات الأمريكية مقاتلة مصرية فوق السلوم، حين حاولت المقاتلات المصرية اعتراض طائرات الجسر الجوى الأمريكى التى اخترقت المجال الجوى المصرى وهى فى طريقها إلى مطار العريش.
> أرسلت الولايات المتحدة 250 طياراً مقاتلاً أمريكياً من اليهود، للمشاركة بطائراتهم مع سلاح الجو الإسرائيلى فى المعارك على جبهتى سيناء والجولان.
> نفذت الولايات المتحدة طلعتين بطائرة «اس. آر- 71» وهى طائرة تصوير جوى تبلغ سرعتها 3600 كيلومتر، ولا تستطيع صواريخ الدفاع الجوى -فى ذلك الحين- الوصول إليها.
كانت الطلقة الأولى يوم 13 أكتوبر وحلقت الطائرة فوق دلتا النيل والوادى إلى قنا ثم اتجهت إلى البحر الأحمر وحلقت فوق جبهة القناة ومنها إلى البحر المتوسط وعادت إلى قواعدها، وكررت الطائرة هذه المهمة فى طلعة ثانية يوم 15 أكتوبر.
ومن خلال صور الطلعتين فوق جبهة القناة، أعطت الولايات المتحدة لإسرائيل مفتاح خطة ثغرة الدفرسوار عند مفصلة الالتقاء بين قوات الجيش الثانى والثالث.
لذا كان السادات يعنى ما يقول حين خاطب قبيل وقت إطلاق النار المصريين والعرب قائلا: إننى لن أحارب أمريكا.
فقد كان يرى أن القتال لم يعد فى مواجهة إسرائيل وحدها، بل إسرائيل مدعمة بالسلاح والمعلومات والطيارين الأمريكيين.
انسحبت إسرائيل من منطقة الثغرة إلى خط فك الاشتباك الأول فى يناير 1974، بعد أن أيقنت أن السادات عازم على استئناف القتال لتحرير الأرض.
وبالفعل.. كان السادات قد كلف اللواء سعد مأمون بقيادة قوات غرب القناة لتنفيذ خطة لتدمير الثغرة، ووضع اللواء مأمون هذه الخطة التى عرفت باسم الخطة «شامل».
ثم عادت إسرائيل للانسحاب إلى شرق خط المضايق، وفقا لاتفاق فك الاشتباك الثانى فى عام 1975.
وفى هذا الاتفاق، تعهد البلدان بعدم اللجوء إلى الوسائل العسكرية واعتماد المفاوضات أساساً لحل نزاع الشرق الأوسط.
حينما مضى الوقت ولم تظهر بادرة سياسية لكسر الجمود منذ فك الاشتباك الثانى.. قام السادات بمبادرته للسلام فى 19 نوفمبر 1977 وزار إسرائيل وألقى خطابه أمام الكنيسة.
بعدها كما هو معلوم، تم توقيع اتفاقيتى كامب ديفيد بالبيت الأبيض فى سبتمبر 1978، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى 26 مارس 1979، وانسحبت إسرائيل من كل ما تبقى من سيناء فى 25 يناير 1982، وتبقت مشكلة طابا التى حسمتها هيئة التحكيم الدولية وقضت بمصرية طابا فى أكتوبر 1988، وانسحبت منها إسرائيل فى 19 مارس 1989.
لم تكن إسرائيل تقبل الانسحاب من باقى سيناء دون قتال، لولا انها كانت تدرك انها بالقتال وبالدماء ستجبر على الانسحاب.
ولم يكن السلام المصرى الإسرائيلى سيصمد طيلة 40 عاما أو تزيد لولا يقين إسرائيل بأن معجزة النصر المصرى عام 1973، ليست فعلاً خارج المكان والزمان، وإنما حالة تاريخية قابلة للتكرار فى كل مرة توضع موضع الاختبار.
الآن.. جيشنا أقوى بكثير مما كان فى يوم السادس من أكتوبر.
لم تعد المقارنة العسكرية التقليدية فى صالح إسرائيل بالمطلق كما كانت عام 1973.
الجيش المصرى صار قادراً على الدفاع، وردع كل من تسول له نفسه المساس بتراب أو مياه أو سماء البلاد، ونقل مسرح العمليات إلى خارج أراضيه.
لسنا قوة عدوان، وإنما نحن ندرك أن الضعف يغرى بالعدوان، وان الردع يمنع الحرب، وان القوة والقوة وحدها هى طريق النصر.
نقلا عن اخبار اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع