بقلم - علي محمد فخرو
إذا كنت تريد أن تعرف مدى بشاعة ومأساة ما فعلته بعض أنظمة الحكم العربية بشعوبها فما عليك إلا أن تزور مدن الغرب الأوروبى لترى بؤس حياة أولئك الضحايا. دعنى أصف ما شاهدت وعرفت فى مدينة إنجليزية تقع على حافة لندن.
فى الشوارع والأسواق والمطاعم يتعرف الإنسان على ألوف الوجوه التى طالما شاهدها عبر حياته فى مدن الوطن العربى: من سوريا والعراق ولبنان واليمن مصر والمغرب العربى وحتى الخليج العربى وغيرهم. وجوه متعبة، أو شاحبة، أو مبتسمة باستسلام وخضوع، أو متسكعة فى الأزقة أو على حواف الطرقات الصاخبة، أو وجوه أمهات متعبات يهدئن جيوش الأطفال من ورائهن، بوجوه نسيت الفرح وبعيون زائغة لا تفهم ولا تتعرف على ما يدور من حولها من سلوكيات وأحاديث.
تستوقف أحدهم أو إحداهن من أين الأخ أو الأخت؟ من ذاك البلد العربى المأزوم أو ذاك الوطن المهدم المسحوق، يأتيك الجواب. هل أنت هنا منذ زمن طويل؟ يصلك الجواب منذ عشر، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة. أما إن تجرأت وسألت عن مصادر عيشهم هم وعائلاتهم فستكون قائمة طويلة من الوظائف الخدمية المتواضعة أو الإعانات الحكومية أو ما يرسله الأولاد العاملون فى بلدان اليسر من هبات لتقيهم مصادر التسول أو بيع الشرف أو خيانة الضمير.
وبين الحين والآخر تتساقط الدموع أو تسمع الآهات بشأن أم مقعدة جائعة أو أب مصاب بمرض الخرف ويعيش حالة العزلة التامة فى المكان والزمان.
تقف أنت مشدوها ومفجوعا وغضبانا ولاعنا يعقبه طرح السؤال على نفسك: مدن الغرب يزورها فى طيلة أيام السنة الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء وكثير من المسئولين، فهل يا ترى تجول أحدهم أو مرافقوهم أو حتى خدمهم فى شوارع مدن الغرب ليشاهدوا تلك الوجوه الهائمة العابسة المكسورة والتى كان ظلمهم وطمعهم وفسادهم وجهلهم وتحزباتهم الطائفية والقبلية سببا فى وجود تلك الوجوه فى المنافى والأعمال التى لا تسمن ولا تغنى من جوع؟
أجزم بأن الجواب هو كلا ثم كلا، فهؤلاء من كبار القوم، المتربعين على كراسى الحكم، الساكنين أفخر البيوت والفنادق فى المدن الأوروبية يتنقلون فقط بواسطة سياراتهم الفارهة الغالية الثمن، محروسين من قبل حراس يقظين قساة موالين بعمى الضمير ونيران الخوف من عقاب السيد وما وراء السيد. هؤلاء من المترفين يفعلون أكثر من ذلك: إنهم يلومون الملايين المهاجرة ويتهمونها بأنها قليلة المروءة والعرفان بالفضل وبالتالى تستحق المصير الذى وصلت إليه.
ظاهرة المهاجرات والمهاجرين الهائمين العرب، الذين يكتوون بنيران الغربة والتسولات المذلة والعيش فى أكواخ الفقر وعيش الفتات، أصبحت محنة عربية قومية كبرى، لتضاف إلى محن الوطن العربى الكثيرة ولأنها كذلك تحتاج أن تواجه لا من قبل كل قطر على حدة، ولا من قبل المساعدات الأجنبية المقدمة بألف شرط مذل، وبالطبع ليس من قبل القوى الاستعمارية والصهيونية التى تعرض بانتهازية وحقارة المساعدة فى الأمر.
عيب على الجامعة العربية ومؤسسة قمة الرؤساء العرب أن يجلسوا متفرجين ينتظرون الفرج. عيب على المزكين أن لا تشمل أموال زكاتهم حل المساهمة فى حل هذه الظاهرة. عيب على شرف هذه الأمة أن تقبل بأن يكون مصير الملايين من شعوبها بهذه الصورة البائسة، وأن تقوم بعض الأنظمة السياسية الأوروبية بواجب المساعدة بصورة أكبر عطاء والتزاما أخلاقيا ودينيا. عيب على وزراء التربية العرب أن لا يفعلوا شيئا لأطفال المهاجرات والمهاجرين الغاطسين فى الأمية الأبجدية العربية والمهددة هويتهم العروبية وثقافتهم التاريخية المشتركة. عيب على بعض أغنياء العرب أن تذهب أموالهم لمساعدة فقراء الكيان الصهيونى الحاصل على بلايين المساعدات من كل حدب وصوب وتناسيهم للمهجرات والمهجرين والمهاجرات والمهاجرين العرب. عيب.. وعيب.. وعيب.
وأخيرا عيب على علية القوم العرب أن يزوروا مدن الشتات لملايين العرب دون أن يتنازلوا ويمشوا فى شوارع تلك المدن ليشاهدوا عار العرب، وهوان العرب، مبثوثا فى كل بقعة من بقاعها.