بقلم: علي محمد فخرو
يمثل السُّودان فى هذه اللحظة أنموذجا فى العمل السياسى الجماهيرى يستحق أن يشار إليه بالفخر والاعتزاز من جهة وبالإشارة إلى المثالب من جهة أخرى.
فذلك الحراك الجماهيرى السلمى المبهر حافظ على سلميته بالرغم من كل الاستفزازات التى أرادت إدخاله فى حلقة العنف، واتصف بالنفس الطويل فى نضاله المرير ضد النظام السابق، وتشرف بالدور الهائل الذى لعبته المرأة السودانية الواعية الجريئة فى تجييشه وصموده وتضحياته، وتجنّب الفسق والفجور فى خصومته، وأشرك عددا كبيرا من كل أطياف المجتمع فى تكوينه، وأفسح المجال الواسع لشبابه فى هذا الحراك، إذن، فيه الكثير من الدروس لبقية الحراكات العربية الأخرى.
من هنا يستحق قادة ذلك الحراك وجماهيره التهنئة على الإنجاز الجديد المتمثل بالتوقيع على الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية مع قيادة المجلس العسكرى السودانى الانتقالى، الذى هو الآخر يجب أن يشكر على تصرفه المسئول تجاه مطالب شعبه الديمقراطية العادلة.
ومع كل ذلك دعنا نشير إلى مجموعة من النقاط نعتبرها هامة، وجديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار حتى يصبح إنجاز ذلك الحراك التاريخى فى أبهى صوره.
أولا، أثار الانتباه إلى أن الوثيقة، عندما وضعت تعريفا لطبيعة الدولة السودانية، تجنبت ذكر صفتها الأساسية التى بناها تاريخ السودان عبر خمسة عشر قرنا ورسختها لغة أهل السودان وثقافتهم وجغرافيتهم ومصالحهم العليا، صفة أن السودان دولة عربية. ليس هذا التجاهل بالأمر الصغير، وهو ينسجم، دون قصد بالطبع، مع التوجه الأمريكى ــ الصهيونى الذى عمل ولا يزال يعمل على إسقاط صفة الانتماء العربى من دساتير كل الأقطار العربية، كجزء من إلغاء الانتماء القومى العروبى لكل الشعوب العربية وتدمير الأمل فى وحدة الأمة العربية المجزأة فى المستقبل.
نحن القوميون العروبيون نأمل أن يتم تصحيح الأمر فى دستور السودان الدائم الذى سيوضع فى المستقبل القريب، كما نصت الوثيقة. كما نأمل تصحيح تجاهل الالتزامات القومية للمصالح العربية المشتركة عند وضع السياسة الخارجية لجمهورية السودان من قبل أجهزة الدولة فى الفترة الانتقالية، والتى نصت الوثيقة على وضعها حال تكون الحكومة الجديدة والمجلس التشريعى الجديد.
إن إثارة هذا الموضوع لا يقلل من إعجابنا بالروح الديمقراطية العالية التى شملت كل الوثيقة والاهتمام الشديد بجوانب الحقوق الإنسانية ومبادئ العدالة والحريات العامة والتعددية والمساواة فى المواطنة وإعلاء شأن القوانين. والواقع أن كل ذلك سينقل جمهورية السودان الشقيقة إلى مستوى عال من تحقق المتطلبات الديمقراطية الحقيقية العادلة، لا للرجل السودانى فقط وإنما أيضا، وبخطوات وإجراءات مذهلة، للمرأة السودانية المناضلة الرائعة.
ثانيا، يحتاج الإنسان، حتى فى ظروف الاحتفالات والأفراح الحالية، بالتذكير بدروس المجتمعات الأخرى بشأن موت الديمقراطية التدرجى المستتر وراء ألف قناع وحيلة، التذكير بأن موت الديمقراطيات فى الماضى القريب كان يأتى على يد العساكر أو الإيديولوجيات الفاشية أو التدخلات التآمرية الخارجية.
لكن فى الآونة الأخيرة رصد الكثير من الكتاب، خصوصا فى الغرب الديمقراطى، بدء موت الديمقراطية التدريجى على يد شخصيات مهزوزة نرجسية مثل الرئيس الأمريكى الحالى، أو متلاعبة بالعواطف الوطنية مثل بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا الجديد، أو القيادات الشعبوية الغوغائية المتعصبة ضد الأغراب كما أفرزتها العديد من الانتخابات فى العديد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا وهنغاريا وغيرها.
وقبل ما نراه فى الغرب حاليا عرفت العديد من بلدان أمريكا الجنوبية رجالات سياسة جاءوا عن طريق الانتخابات الديمقراطية لينقلبوا على الديمقراطية الحقيقية ويمارسوا أساليب ديكتاتورية تسلطية لحكم بلادهم، وذلك باسم ديمقراطية مزيفة.
ذلك أن الدساتير والقوانين لا تحمى لوحدها الديمقراطية، كما نراه كمثل صارخ يجرى فى الولايات المتحدة تحت نظام الحكم الحالى. الديمقراطية تحتاج أيضا، لكى تتجذر فى المجتمعات، تعايش القوى السياسية وقبولها للاختلافات فيما بينها بتسامح واعتبار بعضها البعض كقوى شرعية متنافسة وليست كقوى متصارعة فى معركة حياة أو موت. الديمقراطية تحتاج ثانيا إلى سياسيين يمارسون الانضباط فى خطوات تحقيق شعاراتهم. ولذلك فممارسة سياسات الاستقطابات الحادة هى بداية موت الديمقراطية.
نذكر بذلك حتى لا نقع فى الاعتقاد الخاطئ بأن الوثيقة التى وقع عليها مؤخرا ستكون كفيلة بحماية الديمقراطية الوليدة. حماية الديمقراطية تحتاج فى الدرجة الأولى لممارسين ديمقراطيين. والذى قرأ تاريخ السياسة فى بلاد العرب يعرف جيدا ماذا يعنيه هذا التنبيه الذى نقوم به.
حفظ الله السودان وشعبه للمساهمة فى نقل أمتهم العربية إلى مرافئ الديمقراطية من خلال الاحتذاء بتجربة فذة مبهرة.