بقلم - محمد صلاح البدرى
لا يمكن الحديث حول تطوير الرعاية الصحية دون أن يتطرق النقاش إلى ملف الإنفاق على القطاع الصحى.. فهو حجر الأساس لأى محاولة لتحسين الخدمة وتطويرها.. وأى محاولة لرفع مستوى الخدمة دون النظر بعين الاهتمام إلى المخصّصات المالية للصحة لن تصبح ذات فائدة تُذكر فى اعتقادى.. اللهم إلا بعض محاولات تحسين جودة الخدمة ذاتها.. ولكن بالسعة المنخفضة نفسها التى تعانى منها منذ زمن بعيد.
والثابت أن هناك طفرة واضحة فى الإنفاق على القطاع الصحى من الحكومة المصرية، خاصة بعد أزمة كوفيد التى اجتاحت العالم خلال العامين الماضيين.. فمشروع موازنة العام المالى ٢٠٢٢ - ٢٠٢٣ يرصد زيادة قدرها ١٩.٣ مليار جنيه من الإنفاق المباشر على القطاع الصحى، مقارنة بالعام الماضى، وفقاً للتقسيم الوظيفى للموازنة.. وهو ما يمثل زيادة بنسبة تقترب من ١٨٪ عن الموازنة الماضية.. وهو فى رأيى -وفى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية- يعد إنجازاً ينبغى تثمينه.
أسوأ ما يواجه فكرة الإنفاق فى مجال الرعاية الصحية هو عدم وجود عائد اقتصادى له يمكن قياسه مقارنة بالخدمات الأخرى.. فالعائد فى هذه الحالة إنسانى فى المقام الأول.. وقيمته لا يتم رصدها إلا بعد سنوات طويلة وبمعايير مختلفة.
فبنظرة اقتصادية مجردة إلى ما يتم إنفاقه فى مجال الصحة فهى أموال بلا عائد يمكن قياسه أو تقييمه بشكل واضح.. ولكن النظرة الأكثر شمولاً تكشف أن الإنفاق فى هذا الملف أكثر جدوى بكثير من معظم القطاعات الأخرى.. فأزمة فيروس كوفيد أثبتت للعالم كله قيمة وجود نظام صحى ثابت وقوى.. وعبّرت بشكل واضح عن أهمية ما يتم إنفاقه فى مجال الصحة من الحكومات المختلفة.
المشكلة الأساسية أن جزءاً كبيراً من الإنفاق الصحى المباشر يذهب إلى توفير الاحتياجات من الأدوية والأجهزة الطبية والمستهلكات.. الأمر الذى يحول هذا الإنفاق فى الدول التى تعتمد على توفير احتياجاتها الطبية من الخارج مثل مصر إلى مبالغ مخصّصة للاستيراد بشكل أساسى وليس للإنفاق الداخلى.
كل دول العالم الأول نجحت فى أن تنتج نسبة كبيرة من احتياجاتها الصحية والطبية.. الولايات المتحدة الأمريكية ومعها معظم الدول الأوروبية تنتج الدواء والأجهزة الطبية ومستلزمات الرعاية الصحية التى تحتاجها بالكامل محلياً.. بل وتصدّرها إلى الكثير من دول العالم.. لم يتوقف الأمر عند ذلك.. فقد تبعتها الهند التى تعتبر قد نجحت فى تحقيق طفرة فى هذا المجال.. وهذا هو بيت القصيد.
لم يحاول أحد أن يقر خطة استثمارية واضحة لإنتاج المستلزمات الصحية والطبية محلياً بالشكل الذى يعمل على خفض فاتورة الاستيراد إلى الحد الأدنى.. لم يفكر أحد حتى الآن أن يجعل التصنيع فى القطاع الطبى من أجهزة وأدوية أولوية قصوى، باعتبار أن توفير تلك السلع هدف استراتيجى لا يمكن الاستغناء عنه، وفى الوقت نفسه يحمّل الموازنة العامة مبالغ يمكن توفيرها لو توفر بديل محلى مناسب.
إن خطة بهذا الشكل ستنجح فى إعادة جزء كبير من الإنفاق الذى يحدث فى مجال الرعاية الطبية إلى المجتمع مرة أخرى فى صور مختلفة.. ستنجح فى تشغيل مصانع وأيدٍ عاملة مصرية.. ستتمكن خطة واضحة فى هذا الإطار من تحقيق منظومة متكاملة أكثر ثباتاً أمام المتغيرات العالمية.. بل ربما تصبح هى ذاتها مصدراً مهماً وأساسياً لتمويل القطاع الصحى بأكمله فى حال اكتفاء السوق المحلية ومن ثم التصدير.
نحتاج إلى خطة متكاملة لتطوير قطاع الدواء وصناعة الأجهزة الطبية ومستلزمات الرعاية الصحية على أرض هذا الوطن.. نحتاج لإنتاج بعض أو ربما كل ما نستهلكه فى هذا المجال.. على الأقل لتكتمل الدورة الاقتصادية بشكلها التقليدى.. ونكتشف مصدراً للتمويل الذاتى لم يُكتشف بعد.. أو هكذا أعتقد.