بقلم - محمد صلاح البدرى
لم تعد تمر ذكرى ثورة الثالث والعشرين من يوليو دون أن يصحبها ذلك الهجوم المعتاد على مواقع التواصل الاجتماعى على شخص الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.. الأمر قد تحول إلى «تريند» موسمى لسبب يعرفه معظم الناس دون أن يصرحوا به.. ويتحول فى النهاية إلى محاولة جديدة لتزييف التاريخ والوعى لدى الشباب حديث السن والخبرة..!
الهجوم على الرموز التاريخية لم يعد أمراً يثير التعجب.. هو أحد المتطلبات العجيبة لـ«ادعاء» الثقافة بمفهوم العصر.. الكل يدلى بدلوه الفارغ من أى حيثيات.. الكل يريد أن يثبت أنه عميق.. فيبدأ فى الجلوس متكئاً على جانب جسده.. ويمسك بهاتفه المحمول ليبدى رأيه فى أخطاء «السادات» وقت ثغرة الدفرسوار.. أذكر أن نقاشاً حول مظلومية «ريا وسكينة» قد استرعى انتباهى منذ فترة.. لأكتشف أن هناك من يزعم أنهما كانتا تقتلان جنود الإنجليز بالإسكندرية وليس النساء.. وأن القضية أخذت هذا المنحنى إرضاءً لقوات الاحتلال وقتها.. لا بأس.. ليس هذا موضوعنا على كل حال.. لقد تعودت أن أقرأ كل هذا وأبتسم دون رد.. فالدنيا ستظل تعج بالحمقى حتى تقوم الساعة..!
المثير فى الأمر فى الهجوم على «عبدالناصر» تحديداً أن معظم المهاجمين لا يتجاوز عمرهم العشرين عاماً بأى حال.. ومعظمهم لا يعرف ما فعله من الأساس.. لا يعرفون أنه زوّج ابنته بقرض من البنك الذى لم يمتلك فى حسابه به أكثر من ٥٠٠ جنيه عند وفاته.. لا يعرفون أنه كان زعيماً وطنياً حقيقياً..!
لقد تربينا فى بيوت أحبت «عبدالناصر».. لا يوجد بيت فى مصر لم يحمل داخله من كان يعشقه.. ولم يبك بحرقة حين مات..!
لقد تحول الهجوم إلى مجاملة وإن لم يتذكروا شكله.. يكفى أن يجدوا منشوراً على «فيس بوك» كتبه إخوانى -يكرهه بالتعريف طبعاً- ليبدوا رأيهم فيه بقسوة غير مبررة!!
الأمر يحمل فى كل مرة خلطاً واضحاً لدى هذا الجيل بين شخص «عبدالناصر» وثورة ٢٣ يوليو.. ليتحول الرجل والثورة إلى كيان واحد.. فلا يمكن تمييز الهجوم على أحدهما دون الآخر.. وهو خلط أعتقد أنه متعمد من كارهى الرجل، ليختلط الحابل بالنابل.. ويصبح كاره «عبدالناصر» كارهاً ليوليو بالتبعية!!.. وهو أمر لم أفهمه أبداً!!
لقد تربينا على حب هذه الثورة.. بل استفدنا جميعاً منها ولو بشكل غير مباشر.. حتى أصدقاؤنا من «أبناء الذوات» كما يقولون.. الذين تضرروا حقاً من قوانين الإصلاح الزراعى والتأميم «بالمناسبة لم أعرف منهم أحداً فى حياتى».. حتى هؤلاء قد استفادوا منها فى مرحلة ما من عمرهم.. لم يسلم الأمر من مدرسة ثانوية عسكرية التحق بها يوماً ما.. أو سيارة امتلكها والده أو حتى جده ماركة «نصر ١٢٨» من إنتاج ذلك المصنع الذى أنشأته الثورة.. أو حتى منشفة من إنتاج مصانع المحلة وجدها فى منزله يوماً ما..!
أغلب الظن أن الأمر يحمل انعكاساً للتجربة المصرية الحديثة.. فلا يمكن فصل حالة يوليو التى شكلت جمهورية جديدة عن الحالة العامة الحالية التى يسعى فيها النظام السياسى لإعادة بناء الوطن.. حتى إننى أزعم أنه لم يأت من الرؤساء من يشبه «عبدالناصر» سوى الرئيس عبدالفتاح السيسى.. نفس الصدق فى المشاعر.. نفس الإصرار والوطنية الشديدة التى تبدو فى كل خلجة من خلجاته حين يتحدث.. ربما لهذا أصبح الإخوان من كارهى الوطن يتصيدون ذكرى الثورة سنوياً للهجوم على «عبدالناصر» لأسباب صارت واضحة..!
لا أعرف إن كان تحليلى يحمل الصواب أم الخطأ.. كما أننى لست ناصرياً لأمجد الرجل على كل ما فعل.. فقد كانت له أخطاء بكل تأكيد، ليس أقلها النكسة.. ولكننى أريد فقط أن يتعلم أولادنا التاريخ.. أن يستوعبوا الإيجابيات والسلبيات كلها قبل أن يحكموا.. ألا ينساقوا لدعاية الإخوان الذين لا يتوقفون عن العبث بالتاريخ طيلة حياتهم..!
يحتاج الأمر إلى النظر للأمور بمنظور أكثر شمولاً.. يحتاج إلى إعادة النظر فى وسائل تثقيف الأجيال الجديدة.. حتى لا يستقوا التاريخ من كاره أو حاقد..!
إن أكل الأكباد وتشريح الأجساد بعد الموت عادة همجية تخص قبائل البربر.. أما نحن الفراعنة.. فأجساد الموتى عندنا تحنط.. لتبقى للأبد!!