لم تكن المرة الأولى التى أسافر فيها خارج البلاد، سواء لفترة قصيرة أو طويلة، فعملى كأستاذ جامعى يتطلب أن أشارك فى مؤتمرات دولية متعددة، ولكنها كانت المرة الأولى التى أواجه فيها موقفاً بهذا التعقيد!
ففى إحدى محطات المترو بإحدى العواصم الأوروبية، وفى خضم زحام ساعات الذروة، قام أحدهم بنزع حقيبتى الصغيرة التى أحملها على كتفى، ظناً منه أنها تحتوى على ما يستحق السرقة.. الأمر كله تم بسرعة شديدة، لدرجة أننى لم أستوعب ما حدث إلا وباب القطار يتحرك ليغلق واللص يقفز منه باحتراف.. وأنا أقف مذهولاً مما حدث، عاجزاً عن فعل أى شىء!
المشكلة لم تكن فى النقود التى كانت بالحقيبة، فلم أكن أحمل الكثير.. الكارثة كانت فى الأوراق التى كانت بها.. وتحديداً جواز السفر الخاص بى..!
ربما كنت سعيد الحظ يومها.. بعد أن فتح اللص الحقيبة سريعاً والتقط منها النقود ثم ألقاها إلىّ مرة أخرى فى إحباط غاضب.. وقتها حمدت الله أن عاد إلىّ جواز السفر..!
لم أنسَ أبداً تلك الدقائق التى تلت ذلك الحادث.. تلك اللحظات التى شعرت فيها بانعدام الهوية التى فقدتها مع جواز السفر.
لم أنسَ أبداً ما شعرت به من حيرة وضياع فى بلد لا أنتمى إليه ولا أعرفه.
الموقف كله تداعى إلى ذهنى حين قرأت أن الإخوان الذين هربوا من مصر منذ عدة سنوات أصبح لدى البعض منهم مشكلة أن صلاحية جوازات السفر الخاصة بهم قد انتهت.. وباتوا لا يحملون أوراقاً رسمية تثبت انتماءهم للدولة المصرية!
لقد فقدوا «كل ما يثبت» انتماءهم لهذا الوطن قبل أن يفقدوا ما يثبت جنسيتهم التى قرروا التخلى عنها وهم فى أحضان الخليفة العثمانى المغرور.
إنه الشعور بانعدام الأمان.. الشعور بالضياع المطلق الذى لا نهاية له أبداً..!
الطريف أنهم حين هربوا من مصر لم يكن أكثرهم تشاؤماً يتخيل أنه سيصل به الحال إلى هذا الموقف.. كانوا يتخيلون أن الأمر لن يتعدى بضعة شهور ويعودون مرة أخرى.. بعد أن تصل قياداتهم لصيغة مصالحة مع النظام المصرى، أو يعود مندوبهم فى الرئاسة إلى مكانه مرة أخرى بضغوط دولية..!
لقد تحولت تلك الشرذمة من فاقدى الهوية إلى كلاب مسعورة.. تنهش فى جسد الوطن من الخارج عبر أبواقهم الإعلامية، وتنتهز كل الفرص لمحاولة هدم وطنهم الذى عاشوا على أرضه وتحت سمائه!!
أصبح كل انتصار للدولة المصرية هزيمة لهم.. وصار كل إنجاز يحققه الوطن انكساراً لهم..!
الأمر بدا جلياً فى الأيام الأخيرة.. حين نشطوا جميعاً فى نشر الشائعات وتزييف مشاهد المظاهرات التى يتمنون أن تندلع ليهدم استقرار الوطن. أذكر تلك المداخلة التليفونية التى قامت بها سيدة مصرية لتسأل أحد مذيعى القناة القطرية المغرضة إن كان ما زال يذكر أنه مصرى أم لا؟.. لقد أجابها المذيع بأنه مصرى بالطبع.. ولكنها ردت عليه بأنها لا تعتقد ذلك!
كم كنت سعيداً وأنا أرى علامات الإحباط على وجوههم بعد فشل دعوتهم الأخيرة للتظاهر، وأراقب اليأس الذى يتسلل إلى لهجتهم على شاشاتهم الكاذبة.. لقد كفروا بالوطن.. فكفر الوطن بهم!!
ربما لم أنسَ يوماً لحظات فقدت فيها ما يثبت هويتى فى أرض غريبة.. وأحسست وقتها بقيمة الوطن وما يقدمه لى من شعور بالأمان.. ولكن يبدو أن البعض قد نسى أنه فقدها منذ وقت بعيد.. وتحولوا إلى مجرد شرذمة.. بلا هوية!!