بقلم: محمود العلايلي
كما كررت أكثر من مرة سابقة على هذه الصفحة أن الشارع هو اللقاء غير الرسمى بين المواطن والدولة لأنه يعكس قدرة الدولة على تنظيم الفضاء العام، كما أنه يبرز رؤية المواطن لقوة الدولة وهيبتها فى الالتزام بالقواعد والقوانين سواء فى وجود ممثلى الدولة بشكل فعلى أو فى حالة غيابهم.وكما كررت أيضًا وأُعيد ما كتبته أن من ضمن الملاحظات المهمة التى تعترى الشارع فى مصر الميكروباص بمنظومته، والذى تخطى كونه وسيلة مواصلات إلى أن تحول لظاهرة اجتماعية، بل تجاوز ذلك ليصبح نمط حياة، فى تحول خطير فاق القدرة على تحجيمه من التنظيم المرورى فقط إلى الحاجة لضبط اجتماعى وسلوكى وأمنى، وهو ما تدهور على مدى سنوات، ولا يعلم أحد يقينًا كم نحتاج من الوقت لتدارك الأزمة ودرء الخطر.
وللتوضيح، فإن ظاهرة الميكروباص كما نراها لا تقتصر على طريقة القيادة العنيفة والمنفلتة لسائقيه، والتى تحمل تهديدًا مباشرًا مقصودًا لباقى السيارات، فى الوقت الذى ليس لدينا فيه أى وسيلة لضبط ذلك لأننا لا نملك آلية للمحاسبة على طريقة القيادة، ولكن الأمر يتخطى ذلك بكثير من تعامل السائقين والتبّاعين مع المواطنين وشغل الطريق بالوقوف العمدى وتعطيل السير وعمل المواقف العشوائية التى تفرض نفسها مع الوقت، بالإضافة إلى قيادة الأطفال ومدمنى المخدرات وبدون رخص للقيادة ولا للمركبات على السواء.
والحقيقة أننى لم أعنِ بالفقرة السابقة أن أُعرف القارئ ما يعرفه أى شخص ارتاد الشارع ولو لربع الساعة، ولكنى قصدت أن أُذكر بكيفية تحول هذا النمط إلى أسلوب حياة فى بعض الأمور الظاهرة وبعضها الذى ندركه بالخبرة، فإذا نظرنا للإعلام الرياضى مثلًا والكروى منه على وجه الخصوص لوجدنا أغلب خصائص الميكروباص فى طريقة عمله وطرحه للموضوعات والمناقشة حولها، من فرض للقوة، وتجاهل للمعايير والأكواد الإعلامية، والعمل على مستويات منفلتة من التجاوزات لتصبح معايير جديدة لما هو قادم من أداء، ثم الأهم، وهو انقياد الغالبية من المُعدين والمقدمين والجماهير للأنماط المستحدثة بصفتها الوسيلة المضمونة لنَيْل الحق وكسب الرزق، دون قلق من محاسبة أو خوف من عقاب.
وإذا كان الإعلام الكروى قد صار وجهًا صريحًا لنمط الميكروباص، فإن هناك العديد من المشاهد التى تعكس نمط فرض الأمر الواقع على سبيل المثال فى العديد من الأماكن، سواء هؤلاء الذين ينتظرونك أمام المصالح الحكومية ويعرضون عليك المساعدة بأجر دون مواربة بالاتفاق مع الموظفين لإنهاء مصالحك فى وقت أقل، أو هذه المحال والمقاهى التى تحتل الأرصفة والشوارع ببضاعتها ومقاعدها تحت عين الرقيب، الذى قد يظهر فى توقيتات محددة بإجراءات صورية وقد لا يظهر أبدًا، والأهم أنه فى أحيان كثيرة نجد الحكومة تتعامل مع المواطنين بنفس أسلوب فرض الأمر الواقع وعدم الخوف من المحاسبة فى العديد من القرارات الاقتصادية التى تمس حياتهم مباشرة مثلما حدث من وقف الاستيراد، وتحجيم حد السحب والإيداع فى البنوك، دون النظر لتأثير ذلك على حياة المواطنين أو عمل أى وزن لردود الأفعال السياسية والاجتماعية.
إن تعدد الأمثلة ليس مهمة فى ذاته بالقدر الذى تكمن أهميته فى ذهنية المواطنين فى أن هناك مَن يستطيع الخروج عن القانون ويتجنب المحاسبة والعقاب بغض النظر عن مرتبته أو وضعه الاجتماعى، مما يعكس شعورًا خطيرًا بأن البلطجة هى الطريق لتحقيق المآرب، وأن فرض الأمر الواقع هو السبيل الصحيح لنَيْل المكانة، وأن المحاسبة مسألة شكلية قد تتحقق أو يتم التهديد بها فقط من باب الحياء، وقد لا يتم ذكرها من الأساس سواء من هؤلاء الذين يخترقون القانون أو القائمين على تنفيذه فى بلاد الميكروباص.