بقلم - محمود العلايلي
كان عماد معروفًا أيام الدراسة بطبع «الإلحاح»، وكنا لا نوافقه على مقترحاته لأسباب منطقية أو لموافقة جماعية، بل كان دافعنا إلحاحه المستمر سواء كان الهدف مكانًا نخرج فيه أو مباراة نحضرها أو أكلًا معينًا نطلبه، والحقيقة أن الإلحاح لم يتخلَّ عن عماد أبدًا، ولكن الأنكى أنه يحاول أن يبدو متفاهمًا مع الجميع، بينما يخصنى أنا بكل أنواع الإلحاح دون كلل.
وهو ما صارحته به فى أول الطريق الصحراوى ونحن نقوم بتغيير إطار السيارة الممزق: طول عمرك زنان وحاتفضل زنان!، فرد بمهارة: ولكنه اقتراحك من البداية، فقلت: نعم كان اقتراحى، ولكنى لم أضع له توقيتًا حتى تستمر فى الإلحاح صباح مساء حتى اضطررت إلى موافقتك للتخلص من «الزن»، وعندما انتهينا من ربط الإطار السليم بعد عمل مشترك متناغم وسريع كما اعتدنا منذ الشباب عدنا إلى السيارة، وفى ظل التكييف الذى أصر عماد بإلحاح أن يكون على أدنى درجة برودة قال: إن جودة الطريق وتنظيمه والتفرقة بين سيارات الركوب وسيارات النقل شىء رائع.
وما إن دخلنا فى طريق الخدمة لتزويد السيارة بالوقود وشراء إطار بدلًا من التالف حتى فوجئنا بسيارة نصف نقل ومجموعة تكاتك تأتى فى الاتجاه المعاكس بالسرعة العادية للطريق، والمدهش أننا أخذنا الجانب الأيسر من الطريق بشكل تلقائى، بينما ظل الفوج المخالف فى طريقه على جانب الطريق دون تردد أو إبطاء، بينما كان الأكثر دهشة هو اتفاقى وعماد على عدم التعليق، بينما يدرك كل منّا أن الآخر يقول لنفسه بخصوص طريقنا إلى الساحل: «هل يمكن عمل طريق يتميز ببعض التعقيد لمثل هؤلاء؟»، وإذا بعماد يقطع السكوت ونحن داخلون على محطة البنزين: بالتأكيد أن ليس كل مَن يستخدمون الطريق من هذه العينة!، ثم تطوع بالإضافة: على فكرة، لقد زادت أسعار البنزين فى أغلب دول العالم بنسب تتراوح بين 50% و100%.
فلا تشْكُ الزيادة التى فُرضت مؤخرًا، وبما أنى لم أشْكُ من الأصل لمعرفتى بالأسباب وبالمعلومة التى تفضّل علىَّ عماد بها، لذلك وجدتها فرصة للتنكيد عليه وسألته: ماذا ستفعل الحكومة الألمانية عند توقف موسكو عن ضخ الغاز نهائيًّا لأوروبا، وكيف ستدفئ أطرافك التى ستتجمد من برد الشتاء؟، وكيف سيكون الحال فى القطاعات الصناعية التى ستتوقف أو تتعطل فى أحسن تقدير جراء توقف ضخ الغاز؟، وبما أن كل أسئلتنا كانت على سبيل التنفيس ولم تكن لها ردود من بداية الرحلة، ففضلنا أن ننتقل لما هو أفيد، أى النقاش على تشارُكنا فى المصروفات، فتوافقنا بعد إلحاحه- بينما كنت بينى وبين نفسى أتظاهر بالتحضر مثله- على أن يرد لى نصف ما أسدده سواء للوقود والإطار أو الأكل وأى مصروفات أخرى بعد العودة، على أن يسحبها لى من ماكينة صراف آلى لأنه ليس معتادًا على حمل «الكاش».
وبعد تموين السيارة، أصر عماد مُلِحًّا على ألّا نخرج من طريق الخدمة حتى نقف فى الرست هاوس لنستعيد الذكريات، وعلى الرغم من أنى شرحت له أن الرست هاوس كان على الجانب الآخر وأنه لم يعد سوى بقايا، فإننى قبل أن أكمل جملتى مرت السيارة على حجر كبير على الطريق، أدى إلى تعثرها، ثم توقفها بلا حراك.
ولولا أحزمة الأمان لحدث ما لا نتمناه، وفى صدفة أخذتها بحسن نية جاء تعثر السيارة فى موقع مشتعل برقم تليفون ونش إنقاذ مكتوب على جانبى الطريق، وهو أمر لم نناقشه، فاتصلنا به ليأتى عكس الاتجاه فى أقل من عشر دقائق بين نظراتنا المتبادلة، التى لم نَعِبْ فيها تصرفه ولم نعاتبه، ثم قلت لعماد بالإنجليزية: كيف سندفع للرجل، وقد أنفقت كل ما كان لدىَّ من سيولة فى شراء الإطار الجديد يا عديم «الكاش»؟!.. يُتبع.