بقلم - وائل جمال
في خطاب تنصيبه أول أيام 2019، وأمام 100 ألف مناصر متحمس، لم يترك الرئيس البرازيلي الجديد جاير بولسونارو مجالاً للشك في أن تغيراً كبيراً قد بدأ. أعلن بولسونارو، الضابط السابق بالجيش، "تحرر البرازيل من الاشتراكية ومن المفاهيم المقلوبة والدولة المنفوخة والصوابية السياسية"، متعهداً بـ" التطهير الأيديولوجي" لأجهزة الدولة من الاشتراكيين وفصل الموظفين غير المتوافقين مع الخط الرسمي. الخطاب أشار أيضاً لإجراءات على رأسها مراقبة الحكومة وإشرافها على عمل المجتمع المدني، وتعيين حدود أراضي السكان الأصليين فيما يعتبر مداً لسيطرة لوبي المستثمرين الزراعيين في مواجهة إحدى الحركات الاجتماعية الأهم في القارة، بالإضافة لسياسات اقتصادية تتضمن الخصخصة وتقليص مخصصات المعاشات و"عكساً للعولمة". يعد بولسونارو أيضاً بمنح حق حمل السلاح، كي يحمي المواطنون أنفسهم، والحصانة لضباط الشرطة الذين يقتلون المجرمين. وعلى الفور، تلقى بولسونارو الترحيب من واشنطن وتل أبيب. فقد غرد الرئيس الأمريكي ترامب، وكأنه يشيد بنفسه، واصفاً الخطاب أنه عظيم: الولايات المتحدة معك. ومن ناحيته، تحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، عن "أخوّة جديدة" مع البرازيل، مشيراً إلى نية بولسونارو في نقل سفارة بلاده في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس.
صعود بولسانورو، اليميني الشعبوي، للسلطة في البرازيل عبر الانتخابات هو علامة أخرى جديدة على انحسار ما سمي بـ "المد الوردي"، الذي شهدته أمريكا اللاتينية مع الألفية الحالية. ورغم أن المؤرخ والأكاديمي البريطاني المتخصص في أمريكا اللاتينية، مايك جونزاليز، يعتبر البرازيل ومعها المكسيك والأرجنتين على هامش ذلك التحول الكبير في القارة، بعد عقود من سيطرة الجنرالات والحكومات العسكرية، وحقبة من التحول الديمقراطي في الثمانينيات، إلا أنه يرى في التجربة البرازيلية دروساً هامة تتداخل مع صعود وانحسار تجربة اليسار في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، قلب المد الوردي بالنسبة له. وها هي الموجة تنحسر مع هزيمة وتراجع الممثلين السياسيين لها عبر الفشل في الاحتفاظ بثقة الناخبين الغاضبين وتأييد الحركات الشعبية التي جاءت بهم للسلطة أو عبر الاستمرار في حكم بلد ينهار اقتصادياً بالحديد والنار كما يحدث في فنزويلا في سنوات حكم هوجو تشافيز الأخيرة ومن بعده نيكولاس مادورو.
يعتبر جونزاليز الثمانينيات، وسياسات حكومات ما بعد الحكم العسكري، الجذر الأساسي للمد اليساري الذي شهدته القارة. التدشين جاء أولاً بفعل الهبة الشعبية لاستعادة الرئيس المنتخب تشافيز في فنزويلا من براثن انقلاب عسكري أطاح به، وثانياً بنضال سكان مدينة كوتشابامبا في بوليفيا ضد خصخصة مياه الشرب. وفقاً لجونزاليز في كتابه الصادر في نوفمبر الماضي، كانت تلك الحركات الاجتماعية الجذرية (سبقتها موجة الكاراكازو الاحتجاجية في 1989 وانتفاضة الزاباتيتسا في تشياباس في المكسيك في 1994) هي التي أسست لحكومات منتخبة اتخذت موقفاً مضاداً للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي طبقتها حكومات التحول الديمقراطي وخلقت انتخابات بلا تمثيل مصالح حقيقي للأغلبية.
يعود مصطلح "المد الوردي" إلى تقرير لمراسل لجريدة النيويورك تايمز في أوروجواي عام 2006 كان يسخر به من موجة التحول يساراً في القارة ودلالاتها. (فهي حتى لا ترقى لأن تكون حمراء). لكن المصطلح انتشر وصار يستخدم من أنصارها والمتحمسين لها. ينتقد جونزاليز الإشارة لما حدث من وحي المد والجزر لأن ذلك يعطي الانطباع بحتميات شبيهة بالظواهر الطبيعية ويخفي الصراع الاجتماعي الهائل الذي شكَّلها، لكنه يعود للقبول به لأنه يسمح بالنظر في التحول وأسبابه بشكل عام، بما لا يعفي من ضرورة الخوض في تفاصيل كل بلد وكل حالة بخصوصياتها.
يقول جونزاليز في كتابه إنه عادة ما يُختصر المد الوردي في ممثليه الذين وصلوا للسلطة، لولا دا سيلفا في البرازيل وتشافيز في فنزويلا...إلخ. وإن ذلك يتجاهل القوى الاجتماعية التي قادت مقاومة شرسة طويلة للسياسات النيوليبرالية من خصخصة وتقليص للإنفاق الاجتماعي، وغيرها مما اتبعته حكومات ما بعد الحكم العسكري. يجسد تشافيز هذه الوضعية. فهو ضابط قومي سلطوي، لكن الحركة التي أعادته للحكم على غير رغبة الشركات الكبرى التي خلقت زخماً ومساحة لسياسات ذات طبيعة اجتماعية وإصلاحية ووسعت من التمثيل الديمقراطي لقطاعات شعبية ولو لفترة مؤقتة. نجح المد الوردي في فتح الباب لقدر من المشاركة الشعبية في صنع القرار، وإدخال بعض التغييرات الاقتصادية الناجحة لصالح الفقراء والجوعى في عكس اتجاه الوصفات النيوليبرالية السائدة. لكنها فشلت في الاستمرار.
***
ومن خلال استعراض تفصيلي للمسارات السياسية في ست دول في القارة (فنزويلا وبوليفيا والإكوادر والمكسيك والبرازيل والأرجنتين)، يشَخِّص الكتاب جذور الانحسار اليساري في عدة عناصر. في مقدمتها، استمرار سيطرة الفكر "التنموي" العالم ثالثي ومدارس التبعية على اليسار في القارة. (من المفارقات أن أحد المنظرين الاقتصاديين الأساسيين لها في القارة فرناندو هنريك كاردوسو، كان هو الذي طبق وصفات البنك والصندوق الدوليين في البرازيل، ممهداً لانتخاب لولا). فالسعي للوصول للسلطة بأي شكل، مترافقاً مع التصور "التنموي" الذي يقول بأولوية دفع تراكم الرأسمالية الوطنية وطبيعة التحالفات التي يستوجبها ذلك مع قطاعات من رجال الأعمال، حدت من قدرة ممثلي المد الوردي في السلطة على تحدي جوهر الرأسمالية النيوليبرالية، وجعلت الإصلاحات محددة ومشروطة بقبول وحدود احتمال قطاع الأعمال. في الحالة البرازيلية، كانت بعض الإصلاحات الاجتماعية ممكنة مع الوفرة بسبب النمو الاقتصادي وارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية عالمياً، لكن ما أن تغير الوضع، فرض رجال الأعمال مصالحهم على حساب الكل.
لم يقدم المد الوردي بديلاً متكاملاً يتجاوز السياسات النيوليبرالية. ربما ساعد التركيز على الاستخراج والزراعة لخدمة السوق العالمية مؤقتاً على إنتاج وفورات لتمويل السياسات الاجتماعية الإصلاحية. لكن هذا الاعتماد على البترول في حالة فنزويلا والنحاس في حالة تشيلي والمحاصيل الزراعية في حالة البرازيل، ربط هذه التجارب أكثر بالسوق العالمية وتقلباتها، وبقلب مصالح رأس المال الأجنبي وممثليه. وهكذا في فنزويلا مثلاً، وفر النفط فرصة لتحسين حياة الـستين في المائة من السكان تحت خط الفقر، لكن مستويات معيشة هؤلاء تدهورت مرة أخرى مع تراجع أسعاره العالمية. ومع تراجع ثقل الحركة الجماهيرية، بفعل ضرب تجارب الديمقراطية القاعدية، تحت حكم تشافيز وبعدها مادورو، الذي سجل التضخم في عهده أرقاماً قياسية، وبلغ التمييز ضد الفقراء أشدَّه بعد أن فتح مادورو أندية خاصة لضباط جيشه ومحال حصرية تتوافر بها منتجات شحيحة في أسواق العامة وبأسعار تفضيلية غير متاحة لباقي السكان. هذا الانفصام بين القاعدة الشعبية والحركات الاجتماعية التي خلقت المد الوردي وبين ممثليه السياسيين في السلطة (مثال لها حركات المطالبة بالمواصلات المجانية ضد ديلما روسيف في البرازيل)، كان حاسماً في انحساره.
أيضاً كان تورط ممثلي المد الوردي في الفساد أحد العوامل الهامة في تراجعه. يربط جونزاليز بين فضائح الفساد المختلفة والتي يقبع لولا دا سيلفا في السجن حالياً بسبب إحداها، وبين الاستراتيجية السياسية المبنية على التحالف مع أبنية السلطة والمصالح القائمة. واسترضائها واللعب بشروطها. ولا ينسى جونزاليز الإشارة هنا إلى أن فضائح الفساد البرازيلية لم تقتصر على لولا وخليفته ديلما روسيف وإنما طالت أيضاً معارضيهم من قيادات اليمين.
لا ينكر جونزاليز في كتابه الدور الذي لعبه الضغط الخارجي، الذي وصل في حالات لترتيب انقلابات عسكرية على رئيس منتخب، والحصار الاقتصادي وإضرابات البزنس لخنق الاقتصاد..إلخ، لكنه يؤكد أن ذلك لا يجب أبداً أن يعمينا عن الحقائق. "لو أن التايتانيك قد غرقت، فلا مجال أبداً لإنكار الحطام باسم التضامن مع مناهضة الإمبريالية". لقد أعطانا المد الوردي دليلاً ملهماً على إمكانات تغيير سياسي يمتد لساحة الاقتصاد، ودرساً في أن البحث عن بديل للنظام الاقتصادي القائم له شروطه وعلى رأسها أوسع مساءلة ديمقراطية قاعدية. فقط هذا هو ما يمكنه أن يملأ الفراغ السياسي الذي يجلب أمثال ترامب واستنساخه البرازيلي للحكم بالانتخابات أو بالانقلابات الدستورية والعسكرية، في أمريكا اللاتينية وغيرها.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع