بقلم - وائل جمال
تعليم مجاني متاح للكل "من المهد إلى اللحد"، “From cradle to grave”، ليس فقط في التعليم الأساسي وإنما حتى للكبار الذين يودون التعلم. ألا تبدو هذه الفكرة غريبة على عالمنا اليوم؟ أليست مجانية التعليم هي السبب في تدهوره في مصر على سبيل المثال؟ أليست المدارس والجامعات الخاصة هي الأفضل والأضمن لتوفير مكان في سوق العمل؟ ثم من يتحمل تكلفة أمر كهذا في ظل عجز الموازنة؟ أليس الحل الأفضل هو تشجيع الاستثمار الخاص والابتكار الخاص في التعليم لتحسينه وتطويره من ركود طاله بسبب المجانية والعمومية؟
هذا الكتاب الصادر في سبتمبر الماضي في لندن لميليسا بن، تحت عنوان دروس العمر، يعتبر أن بريطانيا أمام مفترق طرق فيما يتعلق بالتعليم، وأن الحل يكمن في تبني المجانية من المهد إلى اللحد. تقول بن، الصحفية المتخصصة في التعليم التي تقود عدداً من الحملات القاعدية غير الحزبية، رغم أنها ابنة البرلماني السياسي العمالي اليساري الشهير توني بن، إن بريطانيا أمام اختيار كبير: الاستمرار في طريق الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقف التعليم الخاص في مواجهة العام، أو أن تستعيد المجانية وتعيد هيكلة نظامها التعليمي.
تعترف بن بأن البريطانيين صاروا يتعلمون بشكل أفضل عما كانوا عليه قبل ستين أو سبعين عاماً. لكنها تقول أيضاً إن عملية إدخال السوق في التعليم التي بدأتها رئيسة الوزراء المحافظة تاتشر ثم تابعها العمال قد خلقت وضعاً مأزوماً يحول دون تحسينه وتجاوز المشكلات التي يواجهها الآن، وأبرزها تراجعه عالمياً وتفاوت فرصه في سياق تصاعد اللامساواة، ثم دوره في إعادة تكريسها.
وفقاً لآخر تصنيفات منظمة التنمية والتعاون الدولي عام 2015، يحتل النظام البريطاني المركز العشرين من حيث توفيره للمهارات الأساسية للطلبة، بل إن واحداً من كل خمسة طلاب يغادر العملية التعليمية دون الحصول عليها. في الوقت نفسه، توسعت المدارس الخاصة، وزاد متوسط رسومها إلى عشرين ألف دولار سنوياً، أو 15 ألف جنيه إسترليني وفقاً للكتاب. في الوقت نفسه، تستمتع كبرى المدارس، بتبرعات سخية وأرباح معفاة من الضرائب، أي دعم وتكلفة على الدولة، لتضم أولاد الأغنياء، الذين يستأثرون بفرص التوظيف بعد ذلك. وتضيف ميليسا بن إلى ذلك المشكلات التي أفرزها توجه العملية التعليمية للتدريس من أجل الامتحان، وهو ما يترك آثاراً سلبية على جودة التعليم. كما تلاحظ أيضاً أنه على الرغم من دخول السوق والقطاع الخاص، والذي من المفترض أن يقلل من سلطوية الدولة وتحكمها ويتيح مجالاً للابتكار، خاصة في ظل تراجع إنفاق الدولة وسياسات التقشف، إلا أن سيطرة الدولة وتدخلها زادا بما يحد من مرونة المدرسين وحيوية التعليم وديمقراطيته. بل لم يخلق هذا التدخل في العملية التعليمية اليومية نظاماً واحداً متسقاً.
بحسب آخر تقارير مؤشر التنمية البشرية الصادر عن البنك الدولي فإن بريطانيا تحوز تقديراً يصل لـ 13.9 سنة على مقياس الـ 14 سنة دراسية في المتوسط لكن هذا الوضع يتراجع إلى حدود الـ 11 سنة فقط من 14 إذا وُضعت المهارات الأساسية التي يتعلمها الطلاب في الاعتبار. نفس التقرير، يقول إنه في مصر يُتوقع أن يحصل الطالب في سن 18 سنة على 11.1 سنة تعليم، لكن بمعيار المهارات الأساسية لا يحصل في المتوسط سوى على 6.3 بما يعني أن هناك 4.8 سنوات فجوة في المتوسط. وبرغم الفوارق الكبرى إلا أن مصر مازالت تتحرك في الاتجاه الذي توقفت عنده بريطانيا. ويكفي أن نعرف أنه في ظل أن 9% من الطلبة في مصر صاروا في مدارس خاصة، وفي ظل ارتفاع تكاليف التعليم والدروس الخصوصية، فإن إنفاق العشرة في المائة الأغنى في مصر على التعليم صار في المتوسط عشرين ضعف العشرة في المائة الأفقر، وهو ما يكرس اللامساواة والتفاوتات والفقر.
وبينما تكثف مصر خطواتها في اتجاه المزيد من السوق، تقول بن إنه صار هناك توافق يتسع في بريطانيا على ضرورة مراجعة هذا. وتصيغ بن خطة متكاملة فلسفتها الأساسية هي المجانية، التي لا تتوقف عند التعليم الجامعي. تقول بن إن مجانية التعليم هامة لثلاثة أسباب: الأول أخلاقي، "فهو رسالة قوية من الأمة لنفسها ولكل مواطن بأن التعليم ليس فقط جزء من قصة تطور الفرد الشخصية لكنه أساس المصلحة العامة والطريقة التي تستثمر بها الأمة في نفسها على المدى البعيد". والثاني سياسي، "حيث إن التعليم المجاني ذو فائدة كبرى للدخول الأقل"، وشرط مشاركتهم الديمقراطية في عالم السياسة. والثالث، عملي يتعلق بأن رسوم التعليم بالضرورة تواصل الارتفاع لدرجة لا يحتملها الناس. "نظرياً، من المفترض أن التعليم مجاني حتى نهاية المرحلة الثانوية لكن الواقع أكثر تعقيداً". ألا يذكركم هذا بشيء؟
لكنه "يُقال لنا إن مجانية التعليم في عصر تفاقم الدين العام وعجز الموازنة أمر مستحيل"، تقول بن إن تمويل هذه الفلسفة ليست أمراً مستحيلاً. ويقدم الكتاب تصوراً لكيفية تمويل تلك التكلفة، مشيراً إلى فرص تضييق التهرب الضريبي أو رفع ضريبة الشركات المنخفضة في بريطانيا أو اقتراحات فرض ضريبة على التعاملات المالية في بورصة لندن. في سنة 1981، كانت حصيلة الضرائب في مصر وبريطانيا متقاربة من الناتج المحلي الإجمالي (24.6% مقابل 24.8 لمصر)، انخفضت في 2014 عندنا لحدود ال 12%، الأقل خلال أكثر من أربعين عاما على الأقل، بينما كانت 24.9 في بريطانيا زادت حاليا ل 25.6. فإذا كان هناك هامش لزيادة الضرائب لتمويل التعليم (بينما ينخفض الإنفاق العام عليه كنسبة من الناتج المحلي سنة بعد سنة وليس العكس في مصر)، فهي موجودة أكثر عندنا، لكن الضرائب المفقودة في مصر هي على الأغنياء، وليست مما يختاره برنامج صندوق النقد، كأرباح البورصة وثروات أغنى الأغنياء وضرائب الشركات.
تشمل خطة ميليسا بن أيضاً تأسيس ما تسميه هيئة الخدمة الوطنية للتعليم NES، على غرار خدمة الصحة الوطنية NHS. تقول بن إن هذه الهيئة أساسية في حماية التعليم كحق، كما نجحت في الحفاظ على ذلك الهيئة الشهيرة في الصحة. كما أنها تطالب أيضاً بإجراءات تتضمن إلغاء الامتحانات. لكن أهم توصياتها هي أنه برغم أن التعليم شأن سياسي بامتياز، يجب إبعاد المناهج عن دورة الحياة الحزبية والسياسية، عبر تشكيل جهاز فوق حزبي يشرف على هذه العملية، والتي يجب أن يدار حولها أوسع نقاش ديمقراطي عام مفتوح، وألا يحتكرها السياسيون أو الحكوميون ويفرضونها من فوق لتحت.
ميليسا بن، دروس العمر، الحجة من أجل خدمة التعليم الوطنية، لندن، الناشر: فيرسو، سبتمبر 2018، 176 صفحة.
نقلا عن الشروق القاهرية