فى يونيو 2018، كان هناك 80 صندوقا سياديا تصل قيمة الأصول التى تتحكم فيها إلى 7.9 تريليون دولار. وقد التحقت مصر بالركب فى أغسطس الماضى بعد أن أصدر الرئيس قانون إنشاء صندوق مصر السيادى، بعد إقراره من مجلس النواب، وتتواصل حاليا عملية إعداد لائحته التنفيذية واختيار مديره التنفيذى. لا ينتمى الصندوق المصرى، الذى يصل سقف رأسماله المرخص حاليا إلى ما يوازى 11 مليار دولار فقط، إلى الصنف الغالب على الصناديق السيادية، حيث يقوم 53 صندوقا من الثمانين على استثمار فوائض ثروات طبيعية كالبترول فى الخليج أو النحاس فى تشيلى أو غيرها. ولا ينتمى الصندوق أيضا للصناديق التى تقوم على فوائض التجارة الخارجية كالصندوق الصينى، فالعجز فى ميزان مصر التجارى مزمن.
يهدف الصندوق المصرى ــ بحسب قانون تأسيسه ــ إلى «المساهمة فى التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال إدارة أمواله وأصوله وتحقيق الاستغلال الأمثل لها وفقا لأفضل المعايير والقواعد الدولية لتعظيم قيمتها من أجل الأجيال القادمة». لذا ربما قد يمكن تصنيفه ضمن ما يسمى بصناديق التنمية الاستراتيجية السيادية، التى عادة ما تستثمر فى الداخل لخلق الوظائف أو تنمية قطاعات معينة أو الحصول على تكنولوجيات متطورة أو فى شركات خارجية لكن بغرض خدمة الداخل.
***
وعلى الرغم من أنه لا تتوافر، حتى الآن، معلومات موثقة عن الكيفية التى سيعمل بها الصندوق المصرى ولا الأهداف المحددة التى سيسعى إليها، فإن هذا النوع النادر من الصناديق يمثل نقطة الضعف الرئيسية فى عمل الصناديق السيادية، بحسب آنجيلا كومين، وهى مديرة «مشروع الثروة» فى جامعة أُكسفورد وعضوة اللجنة الاستشارية فى مشروع صندوق المملكة المتحدة الاجتماعى للثروة. ترصد كومين «معضلة كبرى» فى أداء هذه الصناديق، والتى تستثمر فى الأصول المالية فى الخارج فى العادة لتعظيم الأصول، تتعلق بالمحدودية البالغة للأثر الداخلى لهذه الثروات المتراكمة تحت تصرف الحكومات على رفاه المواطنين. وتقول كومين فى كتابها الأول الصادر عام 2016، بعنوان «ثروة المواطن»، إن هناك تناقضا كبيرا بين هذا التراكم وبين الديون العامة المتفاقمة فى كل أركان الأرض، وسياسات التقشف وانسحاب الدولة من الخدمات الاجتماعية، وطبعا: التزايد الهائل فى اللامساواة.
يميز آدم سميث فى كتابه الأشهر «ثروة الأمم» بين العوائد العامة التى يحصل عليها المواطنون وبين تلك التى تحصل عليها الحكومات بصفتها السيادية مشيرا لاحتمالية أن تكون هناك ثروة تحت تصرف الحكومة فى إطار صندوق لتستخدمها فى رفاه مواطنيها. ومع صعود ظاهرة الصناديق السيادية عالميا (تم تأسيس 50 صندوقا بين 2005 و2015)، عاد النقاش مرة أخرى إلى سؤال الثروات التى تديرها الحكومات ومن يستفيد منها: من يملك الحكومة؟ ولمن تتوجه سياساتها فى إدارة الثروة التى هى تحت أيديها؟
«من الواضح أن الصناديق المملوكة للحكومة لم تنجح فى الممارسة. وتتواصل العداوة بين الدول وبين مواطنيها حول الثروة السيادية. وقد شهد العالم حلقات من الصراع فى عديد من الدول تتنوع تنوع الصين وأستراليا وأيرلندا ومنغوليا وآلاسكا ونيجيريا وليبيا، ضمن آخرى. يبين هذا أنه لا درجة التنمية الاقتصادية ولا نوع النظام السياسى يحولان دون نشوب الصراعات على الثروات السيادية»، يقول كتاب كومين.
والحقيقة أن القواعد الأشهر لحوكمة وشفافية الصناديق السيادية، التى من المفترض أن تسعى لضمان حسن الأداء، والتى يطلق عليها مبادئ سانتياجو، قد تم صكها بعد مظاهرات كبيرة فى العاصمة التشيلية للمطالبة بحصة من عوائد بيع النحاس فى ظل إصرار الحكومة على الاحتفاظ بهذه العوائد للمستقبل. وتستمر هذه المعضلة فى ضمان التوازن بين مصالح ورفاه الناس فى كل من المدى القصير والطويل، إلا أن سقف مبادئ سانتياجو وفقا للخبيرة كومين أثبت قصوره عن ضمان استفادة المواطنين، ناهينا عن أن التزام الصناديق السيادية بها عمليا ضعيف جدا، كما تثبت فى أحد ملاحق كتابها.
كما أن هناك تبعات أخرى لفلسفة الصناديق الحالية: الربح وتعظيم الأصول ولا شىء آخر عبر استثمارات مالية، أولها يتعلق بإحالة إدارة الإدارة لمديرين ماليين خواص، وهو ما يقلص المساءلة ويجور على حساب الصالح العام، بالذات فى النظم السلطوية، حيث المال العام يكاد يكون خاصا. كما تظهر معضلة أخلاقية تخص أداء الدولة كمستثمر كبير فى السوق، مما قد يتطلب قواعد أكثر إحكاما لضبط النشاط وللإفصاح. أما السؤال الأهم فيتعلق بكيفية استخدام الدولة عوائد الاستثمار.
هنا الدعوة لا تتوقف عند تعديل مبادئ سانتياجو، وإنما تمتد أيضا لتغيير فلسفة صناديق الثروة، التى تزيد أصولها بينما يستفيد مواطنون أقل بها، إلى صندوق اجتماعى أو مجتمعى يدير ثروة المواطن هو مالكها والمستفيد المباشر منها، بما يتجاوز فكرة أن الدولة فى مجتمع ديمقراطى تعمل لمصلحة المواطن، ناهيك عن المجتمعات السلطوية.
يبدأ الأمر هنا من التعريف. فوفقا للكتاب، يجب أن ينص القانون المؤسس للصندوق بوضوح على أن أصوله ملك المواطنين. وترفق كومين بذلك إجراءات تشاركية مرنة للغاية لا تكتفى بالرقابة السياسية والقانونية والبرلمانية المعتادة (فى الحالة المصرية لا دور للبرلمان)، بإدماج جماعات المواطنين فى اتخاذ القرارات وتقييمها. وبالإضافة لتوسيع ترتيبات السيطرة الشعبية تؤكد كومين على عنصر استفادة المواطنين المباشرة من الصندوق الاجتماعى، بما يسمح بتمرير نصيب من عوائد الثروة العامة مباشرة لهم، قد يلعب دورا فى تحجيم التفاوت فى الثروة (ومصر واحدة من الدول الأعلى عالميا فى هذا السياق).
***
يقدم الكتاب دليل عمل تفصيليا لكيفية التحول للفلسفة الجديدة، يقوم على استقصاء تفصيلى لأداء الصناديق الحالية ومكامن ضعفها. ومنذ نشر الكتاب قبل عامين انتشرت الدعوة فى بريطانيا وفى الولايات المتحدة، حيث صيغت مشاريع محددة لتأسيس صناديق ثروة اجتماعية توزع من حصيلة استثماراتها دخلا شهريا على جميع المواطنين، يتداخل مع دعوات الدخل الأساسى المعمم، كواحدة من طرق مواجهة اللامساواة الهائلة فى الدخل والثروة وتحويل نصيب من ثروات البلاد من فك المقتنصين فى أعلى السلم للمستحقين المسلوبة منهم فى أدناه. وبالفعل، وزع صندوق آلاسكا السيادى أخيرا من عوائده أكثر من 4 آلاف دولار لكل أسرة، وهناك دعوات لتعميم التجربة للولايات المتحدة بكاملها.
منذ عدة أشهر، قال البنك الدولى فى تقريره «ثروات الأمم المتغيرة 2018: بناء مستقبل مستدام»، إن نصيب المصرى من الثروة، المحسوبة بمنهجية مركبة، يصل إلى 38 ألف دولار، وهو رقم ليس كبيرا بالمقارنة باقتصادات أفريقية وعربية غير بترولية كالمغرب مثلا. يقسم التقرير متوسط ثروة كل مصرى إلى 5600 دولار من الثروة حصيلة الإنتاج و11 ألف دولار من الثروات الطبيعية (ربما يزيد الرقم بعد اكتشافات الغاز)، وأكثر من 22 ألف دولار كثروة بشرية. صناديق الثروة السيادية بفلسفتها الحالية لا تنفعنا هنا. فهى تفاقم اللامساواة فى الثروة والدخل عوضا عن تقليصها، ولا ترى البشر والتنمية كبوصلة إن كانت تراهم أصلا.
آنجيلا كومين، ثروة المواطن: لماذا وكيف يجب أن يدير الشعب لصالحه الصناديق السيادية، نيو هيفن، دار النشر: جامعة ييل، 2016، 296 صفحة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع