عقب اختياره رئيساً تنفيذياً لدويتشه بانك عام 2015، فاجأ جون كريان الحاضرين في مؤتمر في فرانكفورت، باعتراضه على ما يتقاضاه بسبب ارتفاعه الكبير: "ليس لدي أي فكرة لماذا يُعرض عليّ عقد بمكافأة سنوية، إذ أني أعدكم أني لن أعمل بجد أكثر أو أقل في أي عام ولا في أي يوم لأن أحدهم سيدفع لي أكثر أو أقل". هذا الرجل لا يمثل إلا أقلية نادرة في عالم الشركات في ظل أهم وأكبر صعود عالمي في دخول ومكافآت قياداتها، استمر طوال العقود الماضية برغم كل الأزمات الاقتصادية.
في عام 1979، كان رئيس بريتيش بتروليوم (بي بي) يتقاضى 143 ألف جنيه إسترليني سنوياً (ما يوازي نصف المليون بأسعار اليوم)، ارتفعت حزمة دخله في 2011 إلى 4.45 ملايين ثم بعدها بأربع سنوات إلى 19.6 ملايين قبل أن تتسبب ثورة من حاملي الأسهم في تخفيضها 40 في المائة. بعد التخفيض صار دخل رئيس الشركة يساوي 148 ضعف المتوسط مقارنةً بـ 63 ضعفاً في 1979. في الولايات المتحدة، كان متوسط دخل رؤساء الشركات 13.1 مليون دولار في 2017، أي 347 ضعف المتوسط مقارنة بـ 42 ضعف متوسط الدخل في عام 1980.
***
في كتابها الصادر آخر الشهر الماضي عن دخول رؤساء الشركات تركز الصحفية والباحثة والناشطة ديبورا هارجريفس على هذا التطور الهائل في الظاهرة وأسبابها وتبعاتها. ترجع هارجريفس هذا الانفجار في التفاوت لأسباب عديدة متداخلة غيرت عالم الشركات في السنوات الأخيرة تتضمن العولمة وتوسع الشركات عبر الحدود، "وما يطلق عليه المنافسة على المواهب غير العادية وغياب القيود على العوائد المبالغ فيها، وبالطبع ذلك الطمع الصافي القديم".
تذكرنا هارجريفس بأنه عادة ما يتم التركيز على شريحة الواحد في المائة الأعلى في سلم الدخول وعدم الانتباه إلى شريحة الواحد في الألف، وبأن نصيب هؤلاء الذي يزيد بلا حساب هو "نتاج سياسات حكومية وقرارات يأخذها بشر". يربط الكتاب بشكل مباشر بين صعود رونالد ريجان ومارجريت تاتشر وحزمة السياسات التي دشنوها ليتم تعميمها على العالم منذ نهاية السبعينيات وبين زيادة نصيب هذه الشريحة من الدخل، ومن الثروة. فقد خفضت هذه الحزمة من الضرائب والدخول العليا وفتحت الباب أمام نمو الشركات الكبرى وتغولها. لكن الكتاب لا يتوقف عند التفاصيل العامة.
فلقد أدت التغيرات في طريقة إدارة الشركات وفلسفة عملها، المترافقة مع المشروع النيوليبرالي، إلى الدفع في هذا الاتجاه. في الثمانينيات دافعت دراسة أنتجها اقتصاديو مدرسة شيكاغو عن استخدام المكافآت بأنواعها وحصص الأسهم ورفع الدخول لمحاذاة مصالح مدراء الشركات مع ملاكها من أصحاب الأسهم. صار رفع قيمة الأسهم كل شيء وتم ربط الدخول بهذا. ورغم أن الكتاب يرصد كيف أن الزيادة في دخول رؤساء الشركات وإداراتها العليا فاقت بكثير أي زيادة في نشاطها وأرباحها وأسعار أسهمها، إلا أن هذه الفلسفة كان لها أبلغ الأثر على طريقة عمل الشركات التي صارت تركز على ما هو قصير الأمد.
بل إن الكتاب يشير إلى أن الحكومات ذاتها صارت تشتغل بنفس الطريقة. فبفعل سياسات الباب الدوار، حيث يتحرك كبار المسؤولين من الحكومة إلى الشركات وبالعكس، صارت السياسة الحكومية تتبنى الفلسفة قصيرة الأجل نفسها، ناهيك أن "آذان المسؤولين صارت احتكاراً لما يقوله رؤساء الشركات"، على حد تعبير الكتاب. لا يقتصر الأمر على أن يتحول رئيس شركة إكسون موبيل إلى وزير خارجية أمريكا في عهد ترامب، (احسبوا معي كم وزيرا في حكومات مصر المتعاقبة في السنوات الأخيرة جاء من إدارات الشركات الكبرى أو خرج من الوزارة إليها). في بريطانيا، تم تعيين ما يزيد عن 600 وزير وموظف حكومي كبير في ألف وظيفة بالشركات الكبرى ما بين عامي 2000 و2014. وبالطبع فإن هذا وضع يصعب جداً تمرير أي سياسات تمس المزايا الخاصة بهذه الفئة في بريطانيا وفي مصر وفي غيرهما. كما أن هذا النوع من الوقائع يدمر الأفكار التي تربط بين شبكات الفساد وتعارض المصالح وسيطرة الشركات على السياسة العامة بنمط فريد يقتصر على الاقتصادات النامية فيما يسمى برأسمالية المحاسيب علاجها هو استعادة السوق الحقة.
***
للظاهرة أيضاً أثر على الضغط من أجل رفع الأجور في المناصب الحكومية العليا، التي يتقلدها هؤلاء أحياناً. في 2012، قال أحد المسؤولين المصريين في منصب مالي حكومي، ترقى إلى موضع أرفع بعدها، في حوار صحفي إنه ينبغي التخلص من الأفكار الاشتراكية، وإن مرتبه البالغ 200 ألف جنيه، أكثر من 200 ضعف الحد الأدنى للأجر وقتها أقل بكثير مما ينبغي وإنه يستحق "راتبا شهريا 2 مليون جنيه".
وترصد دراسة لباحثين من البنك الدولي منشورة العام الماضي أن ما تقاضته نصف شريحة الألف الأعلى دخلا في مصر كان أعلى من 35.7 ألف دولار سنويا في 2009 (196 ألف جنيه بأسعار العام نفسه)، ارتفع بالنسبة لنصف رؤساء الشركات الذين تقاضوا ما هو أعلى 69 ألف دولار سنوياً (حوالي 380 ألف جنيه). في العام نفسه كان متوسط الدخل السنوي للفرد في أفقر خمس من المصريين 1900 جنيه. أي أن دخول هؤلاء كانت في حدها الأدنى 200 إلى 380 ضعف دخول العشرين في المائة الأفقر. وتقول الدراسة إن هذه الأرقام، التي هي أقل من الواقع بفعل التجنب الضريبي وغيره من أساليب الأغنياء في إخفاء دخولهم وثرواتهم، لا تظهر في بحث الدخل والإنفاق، لذا فإن اللامساواة في مصر في الحقيقة أعلى بكثير مما تقوله الأرقام المتداولة. والاتجاه العالمي يشير إلى أن التراجع الاقتصادي لم يعن تراجع دخول هذه الشريحة، بل زادت بجنون برغم كل الأزمات الاقتصادية، وهو ما يضفي شكاً بالغاً على فكرة أن مواهبهم وقدراتهم تبرر هذه الفجوة المجنونة.
***
تنتقد هارجريفس في الكتاب كيفية تحديد أجور مدراء الشركات الكبرى من قبل لجان هم أعضاء فيها، إلى جانب سعيهم لتحسين البيانات المالية في الأجل القصير لدفع مكافآتهم، ناهيك عن ظاهرة إعادة شراء الأسهم في البورصات لرفع قيمة الأسهم. ولا تقتصر تبعات هذا التفاوت الجبار على اللامساواة في الدخول، وتسلل قصر النظر لأداء الشركات والسياسات الحكومية، وتقويض "الثقة في عالم البزنس"، وإنما أيضاً تتسبب في تقليص الإنتاج، بحسب هارجريفس. يقتبس الكتاب من دراسات عدة ترصد تراجع إنتاجية نفس تلك الشركات التي يرفع رؤساؤها دخولهم بشكل هائل. وتضرب مثلا بإيفان شبيجل رئيس "سنابشات" شركة التكنولوجيا، الأعلى دخلاً بين رؤساء الشركات في الولايات المتحدة بحصوله على 638 مليون دولار، "على الرغم من أن الشركة لم تحقق أي فوائض".
ويشير الكتاب إلى محاولات حكومية متعددة للتعامل مع هذه المشكلة، منها مقترحات قدمتها تيريزا ماي، رئيسة الوزراء المحافظة في بريطانيا، بضم العمال لمجالس الإدارات وحوكمة هذه اللجان. ووصفت تيريزا ماي، هذه الفجوة في الدخول بأنها "غير صحية وغير عقلانية". لم تدخل ماي العمال في مجالس الإدارات ولم تقدم إجراءات ذات شأن لفرض ضرائب على هذه الدخول لكن حكومتها صارت تنشر سجلاً سنوياً بالدخول التي لم تحظ بموافقة أكثر من 80 في المائة من حاملي الأسهم. أما رئيس حزب العمال المعارض، جيريمي كوربن، فقد دعا لقصر العقود الحكومية على الشركات التي لديها نسب معقولة بين الأعلى دخلاً ومتوسط الدخول. وتضيف هارجريفس مقترحات بوقف منح رؤساء الشركات حصصاً في الأسهم على سبيل المكافأة، داعية لأن يكون الدخل كله نقداً لكي تسهل حوكمته ويصعب تهربه من الضرائب ومن الحوكمة.
***
في مقدمة كتابها، تعتبر هارجريفس الرأسمالية بريئة من كل ذلك، معتبرةً أنه ليس تعبيراً عن سماتها في مرحلتها المتأخرة كما يقول كثيرون، لكن كتابها كله يسير عكس ذلك. فيكشف العناصر الهيكلية المرتبطة بتطورها المأزوم في السنوات الأخيرة، وعلى رأسها "كيف أن صناع السياسات وكبار الموظفين الحكوميين قد تم شفطهم تماماً في حلقة الإثراء الشخصي الخاصة بنخبة الشركات بحثاً عن نصيبهم، وكيف اختطفت الحكومات من قبل البزنس". وفي تعليقه على الكتاب، يقول محرر الفاينانشيال تايمز الاقتصادي، مارتن وولف، إن ارتفاع دخول رؤساء الشركات يعكس اقتناص الريع، وهو دخل لا يوازيه منتج اقتصادي يستحق. "إن هذا مدمر اقتصادياً لأن هذا الدخل المرتفع المربوط بأداء الشركات يشجع على قرارات سيئة ويهدد شرعية الرأسمالية"، على حد تعبيره.
ديبورا هارجريفس، هل يتقاضى رؤساء الشركات أكثر مما ينبغي؟، كيمبريدج، دار النشر: بوليتي، سلسلة مستقبل الرأسمالية، 29 نوفمبر 2018، 140 صفحة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع