بقلم - عادل اللبان
إذا كان باب المندب مدخل البحر الأحمر فاليمن هو مفتاحه بموقعه المطل والمتحكم على هذا المضيق الاستراتيجى وبسواحله على البحر الأحمر وخليج عدن وبملكيته لجزيرة بريم (ميون) التى تقع فى قلب باب المندب وتقسمه إلى مسارين ملاحيين ولجزيرة سقطرى التى تتحكم فى مدخل المضيق من جانب خليج عدن جنوباً.
وإذا كان لليمن منافس من حيث الموقع المؤثر فى مضيق باب المندب فهو دولة إريتريا التى تقع على الساحل الغربى (الأفريقى) للمضيق والتى تمتلك أرخبيل دهلك الذى يتكون من حوالى 1500 جزيرة مجاورة وقد حاولت إريتريا التمدد فى جزر البحر الأحمر الأخرى بالاستيلاء على أرخبيل زقر وحنيش وقمران المقابل لدهلك، حتى قضت محكمة العدل الدولية فى لاهاى بعائدية هذا الأرخبيل لليمن الذى لم يتمكن من فرض سيطرته الفعلية عليه بسبب ظروف الحرب الأهلية السائدة فصار مرتعاً للحوثيين وحلفائهم الإيرانيين ونقطة ضغط رئيسية على السابلة الملاحية فى مضيق باب المندب.
ولم يساعد فى الأمر أن دولة إريتريا تتبع منهجاً ارتزاقياً بحتاً فى تعاملها مع تلك الجزر بتأجيرها إلى أى طرف خارجى يدفع لها مردوداً مالياً مجزياً، وكانت إسرائيل أول المستفيدين عندما أعلن الرئيس الإريترى أسياس أفورقى فور استقلال بلاده من إثيوبيا فى 1993 عن تأجير عدة جزر لإسرائيل فى أرخبيل دهلك لإقامة أكبر قاعدة بحرية لها خارج حدودها تضم محطات للمراقبة والتنصت والرصد ولخدمة أسطول غواصاتها التقليدية والنووية.
ومن المهم التنويه أن صغر حجم وكثافة عدد هذه الجزر غير المأهولة تساعد فى عمليات الإخفاء والتمويه والتهريب بالسفن الصغيرة والسريعة على عكس التسهيلات والقواعد البحرية التقليدية التى قامت الولايات المتحدة والصين وفرنسا واليابان بإقامتها فى دولة جيبوتى القريبة (التى تسلك نفس مسلك إريتريا فى توفير عقود إيجار للقواعد العسكرية للغير) لخدمة البوارج الحربية الأكبر حجماً والأقل مرونةً فى العمليات البحرية غير التقليدية.
وهذا الاستعراض الجغرافى- رغم ما قد يبدو فيه من تفصيل زائد- إلا أنه ضرورى لفهم الأخطار الحالية والمرتقبة من تطور الأوضاع السياسية والعسكرية فى اليمن على المصالح الحيوية المصرية خاصة فى ضوء ما سبق شرحه فى مقال سابق من تواجد إماراتى وإيرانى عسكرى مكثف ومتزايد حول مضيق باب المندب ومن عودة أطراف إقليمية مثل تركيا إلى البحر الأحمر باتفاقها مع السودان على إقامة قاعدة بحرية فى ميناء سواكن ومحاولة روسيا إعادة تسهيلاتها البحرية فى بور سودان مع استمرار تزايد التواجد الدولى فى جيبوتى، خاصة من جانب الصين.
وقد آثرت مصر عدم التدخل عسكرياً بشكل مباشر فى الحرب الحالية فى اليمن رغم انضمامها للتحالف السعودى الإماراتى ويرجع هذا القرار إلى اعتبارين أساسيين- فى تقديرى- أولهما عدم اقتناع صانعى القرار المصرى بقدرة الشريكين الخليجيين وحلفائهما على حسم الأمور عسكرياً فى ضوء قدراتهما وخبراتهما القتالية المحدودة ووعورة ميدان العمليات فى اليمن والاعتبار الثانى هو العقدة المتجذرة عن اليمن التى تأصلت فى مصر بعد تجربتها العسكرية المريرة ما بين عامى 1962 و1967 لمساندة المشير عبدالله السلال وجمهوريته الوليدة ضد الإمامة الزيدية وحلفائها فى السعودية وبريطانيا، وقد فشلت مصر فى هذه الحرب لعدة أسباب منها عدم تحديد الأهداف الواضحة والأولويات الممكنة وعدم فهمنا التضاريس والولاءات القبلية المتقلبة هناك، مما أدى إلى تكبدنا خسائر بشرية كبيرة، كما أدت هذه الحرب إلى توجيه أحسن وحداتنا تدريباً وكفاءة قتالية إلى مسرح العمليات اليمنى، مما أسهم فى نكسة يونيو 1967 فصار اليمن يمثل لنا عقدة عسكرية مثل فيتنام للولايات المتحدة الأمريكية نحاول أن نتجاهله أو نبتعد عنه قدر الإمكان، لذلك لم نر سياسة لاحقة لبناء تواجد سياسى وعسكرى مصرى قوى فى اليمن بعد وحدته واستقرار أوضاعه فى فترة حكم الرئيس الراحل على عبدالله صالح رغم طولها وعدم وجود خلافات بيننا أثناءها.
وقد غفلت مصر أيضاً عن ملف إريتريا الدولة الساحلية التى تحتل الشاطئ المقابل لباب المندب ولم تستفد من فرصة حرب استقلالها من إثيوبيا التى استغلتها إسرائيل بتدريب وتسليح متمردى إريتريا فكوفئت بحق إنشاء قاعدة بحرية فى أرخبيل دهلك فور الاستقلال، ولم تر مصر أن إريتريا هى كعب أخيل أو نقطة ضعف إثيوبيا الرئيسية لأنها منفذها البحرى الرئيسى لأغلب عملياتها التجارية بالإضافة إلى كونها المفتاح البديل أو المكمل لباب المندب.
إن الدور المصرى فى مضيق باب المندب يجب أن يستند على اليمن كأولوية أولى بحكم الموقع والروابط القومية والتاريخية ثم على إريتريا كأولوية ثانية ثم على السودان والسعودية كعمق استراتيجى مساند فى البحر الأحمر، فمصر تحتاج إلى تواجد عسكرى بحرى مستمر فى المنطقة، مما يستوجب الحصول على تسهيلات بحرية ثابتة فى موانئ قريبة لإعادة تموين وإصلاح البوارج الحربية، بالإضافة إلى تسهيلات أخرى لتمركز القوات الجوية والبرية المساندة للجهد البحرى كما حدث أثناء حرب أكتوبر 1973 عندما استطاعت المدمرات المصرية منع الإمدادات الإسرائيلية إلى إيلات بحراً بفرض حصار ملاحى على باب المندب مدعومة بقواعد بحرية يمنية قدمت لها الدعم الإمدادى واللوجيستى اللازم، ولن تستطيع مصر التحصّل على ذلك التواجد والقدرة على التأثير إلا بزيادة تدخلها السياسى والإغاثى والعسكرى فى اليمن، خاصة جنوبه وميناء عدن، وأن تجعل من إريتريا عنصراً مكملاً لتحرك مصرى يشمل ضفتى المضيق لمواجهة تواجد القوى الأخرى هناك.
ولعل ما قامت به الدولة فى السنوات الأخيرة من تدعيم لسلاح البحرية بغواصات وفرقاطات متطورة وبحاملتى الهليكوبتر الميسترال الفرنسيتين ومن تدعيم القوات الجوية بطائرات الرافال والميج-29 والمروحيات KA-52 يسهم فى توفير جزء من الآليات العسكرية المطلوبة لتنفيذ هذا الدور مع الأخذ فى الاعتبار أن الدور المصرى العسكرى يجب أن يكون متوازناً مع سقف قوتنا المتاحة، فلن تستطيع مصر مواجهة أساطيل الدول الكبرى لكنها تستطيع خلق التواجد المؤثر داخل المضيق وأن تحد من التمدد الذى حققته قوى إقليمية أخرى بما فيها الدول الأقل حجما وخبرة عسكرية عنا لأننا لا نستطيع أن نفوض مصالحنا الحيوية للغير حتى الأصدقاء منهم، خاصة فى ملف بتلك الدرجة من الحساسية والأهمية لمستقبل بلادنا.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية